أول مرة رأيته فيها يوم أن كلفنى الشاعر الفلسطينى الكبير معين بسيسو بإجراء حوار لمجلة الآداب اللبنانية معه، إنه المفكر الفلسطينى أنيس صايغ بصفته رئيس مركز الأبحاث الفلسطينى وأحد مؤسسيه، كنت أيامها محررا فى وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ذهبت فى الموعد الذى حدده فاستقبلنى ودعانى للجلوس وما أن جلست فى مواجهته حتى بادرنى هو بالسؤال: "هل قرأت كتابى سوريا فى الأدب المصرى؟" فأجبته بالنفى، فسألنى: "هل قرأت كتابى فى مفهوم الزعامة السياسية، من فيصل الأول إلى جمال عبد الناصر؟"، فأجبته بالنفى أيضا، وتملكنى توتر داخلى عميق، وشعر هو بتوترى فضحك بصوت عال وقال: "لا عليك يا ولد فالكتاب الأول صدر عام 58 والثانى عام 65".
بعد هذه المقابلة كنت أتردد عليه فى شقته الصغيرة فى بيروت، فقدمنى للمفكر الفلسطينى الكبير ناجى علوش المسئول عن اتحاد الكتاب الفلسطينى ومجلة الكاتب فنشر لى روايتى القصيرة عن الحياة والموت والسفر، أقاله ياسر عرفات من رئاسة مركز الأبحاث الفلسطينى، وحكى أنيس بنفسه حكايته مع ياسر عرفات فى مذكراته عن هذه المرحلة "بعد تعاظم سمعة المركز فلسطينياً وعربياً وعالمياً، راح عرفات ييبدى اعتراضه على استقلالية المركز، ويحاول السيطرة عليه بالتهديد والتحريض والضغط. فى النهاية، نجح فى قتل المركز والمجلة" وهو يقصد طبعا مركز الأبحاث الفلسطينى ومجلة شئون فلسطينية التى كان يشرف على إصدارها أيضا، وما قاله الدكتور أنيس فى مذكراته "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" بخصوص علاقته المتوترة مع ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير وبالتالى فهو رئيسه المباشر، ما قاله أنيس عن عرفات أغضب بعض المنتفعين الذين كانوا حول عرفات، مما جعل الدكتور أنيس يرد عليهم فيكتب: "أما أن يعتب على بأنى أنبش صفحات من الذاكرة عن عرفات بعد رحيله فأمر مردود ومرفوض، لأن هذه الصفحات جزء أساسى من تاريخ شعب وقضية وثورة، وأن تجارب المرء الشخصية حق من حقوق الأمة وتراثها الثقافى والسياسى والنضالى وليست ملكاً لفرد يستأثر بها ويتستر عليها، رحم الله ياسر عرفات.. وقد كان عرفات يريد أن يكون المركز ومنشوراته وباحثوه رجال إفتاء يجيزون الأفكار والآراء والأحكام التى يريدها حسب مزاجه وفهمه للأمور.. ولم يكن لعرفات مآخذ واضحة وصريحة ومباشرة على إدارتى لمركز الأبحاث".
كتب أنيس صايغ مذكراته فى كتاب تحت عنوان "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" حيث يبدأ مذكراته بفصل عنوانه "فى المنبت" يصف فيه نشأته ويتحدث فيه عن أبيه وأمه وإخوته، لكن أهم فصل فى مذكراته، فى رأيى هو الفصل الذى يحمل عنوان "فى العلاقة مع السيد ياسر عرفات.. المأساة أن تتحول الوقائع والأحداث إلى نوادر للتسلية وفكاهات للدعاية" والذى أسهب فيه عن علاقته بمجر وقائد النضال الفلسطينى ياسر عرفات، وأجمل فصل فى مذكراته هو "فى المدن وحكاياتها" عن المدن التى عاش فيها مثل القاهرة وتونس ومدن أمريكية وأوروبية، لكن سوف تبقى مدينته طبريا فى فلسطين التى ولد فيها هى أجمل المدن، فالدكتور أنيس صايغ مولود فى مدينة طبريا فى فلسطين عام 31 لأب سورى وأم لبنانية، وكان يحمل الجنسيتين: اللبنانية والسورية.
وختم أنيس صايغ سيرته الذاتية بعبارة شديدة الدلالة فكتب "فى طبريا وعلى الطريق إلى طبريا، ومن أجل طبريا، يطيب الموت، لأن المرء يموت واقفاً، وكأنه لا يموت، هناك يتساوى الموت مع الحياة حلاوة، ودون ذلك تتساوى الحياة مع الموت مرارة".
حصل أنيس صايغ على شهادة البكالوريوس فى العلوم السياسية والتاريخ من الجامعة الأمريكية فى بيروت، وأشرف على تحرير الصفحة الثقافية والتاريخية فى جريدة النهار اللبنانية، وعمل مستشاراً للمنظمة العالمية لحرية الثقافة، وحصل على الدكتوراه من جامعة كامبردج فى العلوم السياسية والتاريخ العربى، وعين فى جامعة كامبردج أستاذا فى دائرة الأبحاث الشرقية، فمديراً لإدارة القاموس الإنجليزى العربى، وعين مديراً عاماً لمركز الأبحاث فى منظمة التحرير الفلسطينية فى بيروت، وقد حاولت إسرائيل اغتياله بطرد مفخخ، وكانت شعبة الاغتيالات فى الموساد الإسرائيلى تنفذ عمليات اغتيال لأبرز المفكرين الفلسطينيين الذين أعادوا فلسطين إلى ذاكرة العالم، وتمت عمليات الاغتيالات عبر كوماندوز وجواسيس وطرود بريدية مفخخة استشهد على إثرها الكاتب الفذ غسان كنفانى وكمال عدوان وأبو يوسف النجار وانفجر الطرد المفخخ فى وجه بسام أبو شريف ووصل طرد الموساد الإسرائيلى فى هذه الأيام إلى أنيس صايغ وانفجر فيه، وكان من جرائه أن فقد المفكر الكبير بعض أصابعه ومعظم بصره وحاستى الشم والسمع، وقد كان الرجل بعد هذه الجريمة لا يبصر إلا بمشقة شديدة، كما أنه لم يكن يستطيع القراءة والكتابة إلا بمساعدة زوجته الدكتورة هيلدا شعبان وبعض مساعديه الذين عاونوه فى القراءة وتدوين ما كان يكتبه.
بعد إقالته من مركز الأبحاث قام بتأسيس عدة مجلات ثقافية وسياسية تهتم بالأبحاث ذات القيمة بالقضايا العربية مثل مجلة المستقبل العربى ومجلة شئون عربية ومجلة قضايا عربية، كما أنه قد أسس اللقاء الثقافى الفلسطينى، لكن مركز الأبحاث الفلسطينى سوف يبقى هو جوهرة الماس الثمينة فى المنجم الثقافى والتاريخى والسياسى الذى قدمه أنيس صايغ للقضايا العربية عامة وقضية فلسطين خاصة.
توفى المفكر الموسوعى الكبير فى العاصمة الأردنية عمان، قبل أن يرى طبرية، وقبل أن يرى تراب فلسطين مرة أخرى بعد أن ظل طوال ثمانين عاماً يضحى ويناضل ويحلم بأن يراه قبل أن يموت، ومات أنيس صايغ دون أن يرجع إلى طبريا لأنه لم يركب قطار أوسلو.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة