فى مصر تثور الزوابع والأعاصير على صفحات الصحف بأقلام "علمانيين" و"متأسلمين"، والعلمانيون المصريون هم السياسيون الذين ينادون بفصل الدين عن الدولة، والمتأسلمون هم السياسيون الذين ينادون بدولة إسلامية وإن كانوا يخفون هدفهم تحت شعار الإخوان المسلمين: "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا" أى دولة دينية صارمة لا يأتيها باطل العلمانيين من فوقها أو تحتها، وإن تبدى باطل العلمانيين فى تحديث الدولة والعدالة لكل مواطنى الدولة دون تفرقة فى تمتع الجميع بكل الحقوق والواجبات فوق أرض الوطن الواحد، فالمسألة كلها إذن هى مسألة سياسية تتقنع بالدين من ناحية وبالأيديولوجيات والفلسفات من ناحية أخرى، لكنا هنا سوف نحاول مناقشة الأمر بما يحدث خارج مصر حتى لا ننغمس فى "المكلمة" الدائرة على صفحات الصحف المصرية، ونعتذر مقدما على عدم ذكر أسماء العلمانيين من الكتاب غير المصريين الذين سوف نستعين ببعض من آرائهم حتى لا نستعدى عليهم بعض الكتاب، فينالهم بسببنا الكثير من السباب والتشويه، وما سوف نناقشه هنا هو مسألة العلمانية خارج مصر متمنين من الله ألا يكون كلامنا ثقيلا على كشافة الإخوان المسلمين الذين يجيدون "هبر" كل من يقترب من الحديث فى هذه المسألة.
بعد صلاة "المواطن المسلم" مع الجماعة فى "المسجد" يمد قدمه اليسرى ليخرج من باب "المسجد" سوف يكون خاضعا لكل قوانين الدولة المدنية وكذلك "المواطن المسيحى" بعد خروجه من "الكنيسة" بعد تأدية الشعائر الكنسية سوف يجد نفسه خاضعا لقوانين الدولة نفسها، فـالمواطن المسلم "مواطن" فى الدولة والمواطن المسيحى "مواطن" فى "الدولة نفسها"، ويخضع الاثنان لحكم "القوانين نفسها"، هذا هو ما يقوله "العلمانى" الذى يرى أن أى سلطات تشريعية أو تنفيذية فى الدين تتدخل بحياة الفرد فهى مرفوضة، فالدين فى العلمانية ينتهى عندما يخرج الفرد من المسجد أو من الكنيسة، فمثلا لو حكم على شخص بالإعدام على أساس دينى فهذا الحكم مرفوض فى النظرة العلمانية فيجب أن يكون الحكم مبنيا على قانون قضائى يخص الدولة بأسرها، حيث تضعه حكومة الدولة ولا يتدخل رئيس الدولة فيه، لأنه يجب أن يكون القضاء مفصول عن الحكم.
فالعلمانية فى حقيقتها لا تنهى عن اتباع دين معين أو ملة معينه، بل هى تنادى فقط بأن يتم فصل الدين عن السياسة والدولة وبأن تكون الأديان هى معتنق شخصى بين الإنسان وربه، وعلى المستوى السياسى تطالب العلمانية بحرية الاعتقاد وتحرير المعتقدات الدينية من تدخل الحكومات والأنظمة، وذلك بفصل الدولة عن أية معتقدات دينية لمواطنى الدولة، وحصر دور الدولة فى الأمور المادية فقط نائية بنفسها عن كل الأمور الدينية "يهودية أو مسيحية أو إسلامية أو أية ملة قد اخترعها بشر"، والعلمانية تقول عن نفسها إنها نظام اجتماعى فى الأخلاق، مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعى دون النظر إلى الدين، وهنا مربط الفرس، فالمواطن المصرى "المسلم أو المسيحى أو اليهودى والبهائى" يقوم بتأسيس أسرته ويربى أبناءه على القيم السلوكية والخلقية للدين الذى يؤمن به، بل إن التضامن الاجتماعى فى مصر قائم على أسس دينية فى أغلب الأمر، وهنا لا يمكن للمشرع الذى يضع قوانين الدولة أن يتجاهل هذه الأسس الأخلاقية التى يؤسس المواطنون أسرهم عليها، فالقوانين لا يمكن أن تكون منفصلة عن القيم السلوكية فى أى مجتمع وسوف نرى أن مناصرى العلمانية يرون أن العلمانية هى حركة فى اتجاه التحديث بعيدا عن القيم الدينية التقليدية، والعلمانيون يقولون إن الدولة العلمانية فى أمريكا قد خدمت وقدمت الكثير لحماية "الدين المسيحى" من التدخل الحكومى، وأن المملكة العربية السعودية إذا حكمتها دولة علمانية فسوف تقدم الخدمات والكثير لحماية "الدين الإسلامى" من التدخل الدولى، فيما يجد معارضو العلمانية أن الحكومة العلمانية تخلق من المشاكل أكثر مما تحل، وأنه مع "حكومة دينية"، أو على الأقل ليست علمانية بأنه فى إمكان الدولة الإسلامية أو المسيحية إعطاء المزيد من حرية الدين لكل الأديان من دولة علمانية.
ويشير بعض من هم ضد العلمانية إلى بعض الدول مثل النرويج وأيسلندا وفنلندا والدانمرك تظهر بها بوضوح الصلات الدستورية بين الكنيسة والدولة، ولكنها أكثر تقدمية وليبرالية من بعض البلدان التى تحكمها حكومات علمانية، فأيسلندا مثلا كانت من بين أوائل البلدانالتى قننت الإجهاض، والحكومة الفنلندية توفر التمويل اللازم لبناء المساجد، ويرى العلمانيون فى العالم كله أن الإنسان كائن متغير ومن ثم ينبغى أن تكون الأحكام التى تنظم حياته متغيرة، فلا تصلح له شريعة جوهرها الثبات وأن هذا يعنى الحجر على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدى، بينما يرى المعارضون لهؤلاء العلمانيين أن الإنسان ليس صحيحا أن جوهره التغيير، فبالرغم من هذا التغير الهائل الذى حدث فى دنيا الإنسان، لم تتغير ماهيته، ولا استحال جوهر إنسان العصر الذرى عن جوهر إنسان العصر الحجرى فجوهر الإنسان ليس ما يأكله الإنسان أو ما يلبسه الإنسان، أو ما يسكنه الإنسان أو ما يركبه الإنسان أو ما يستخدمه الإنسان أو ما يعرفه الإنسان من الكون من حوله أو عما يقدر عليه من تسخير طاقاته لمنفعته، وعلى هذا الأساس تتعامل معه نصوص الشريعة الخالدة تشرع له وتفصل فى الثابت، الذى لا يتغير من حياته، وتسكت أو تجمل فيما شأنه التغير، وعلى المشككين فى صلاحية نصوص شريعة الله لكل زمان ومكان أن يعترفوا بأن العقل الذى خلقه الله للبشر، والعلم الذى حضهم عليه، ودعاهم إلى التزود به، هو نفسه الذى كشف عن حقيقة الثبات فى جوهر الإنسان، إلى جوار ظاهرة التغير التى تتصل بالجانب العرضى من حياته، لكنا لا يمكننا أن نغفل أن التشويهات التى تمت فى مصر على مصطلح العلمانية كان بفعل العلمانيين المصريين أنفسهم، فقد ارتبط مصطلح العلمانية فى مصر "بالكفر" و"الإلحاد" و"الزندقة" وهذا قد يرجع إلى طبيعة المجتمع المصرى الذى يعتنق غالبيته الدين الإسلام وطبيعة الإسلام كدين له خصوصيته، ومن أهم الأسباب التى خلقت التلازم الوهمى بين الإلحاد والعلمانية عدم احترام بعض قيم الشعب وازدرائها من النخب العلمانية فى مصر، وارتبطت الشيوعية فى مصر بالشيوعية العالمية التى ارتبطت بدورها بالكفر وهذا ناتج بصورة أساسية من التعالى الذى أبداه الشيوعيون الأوائل فى العالم كله على قيم الدين حتى أن المتأسلمين فى مصر "جماعات الإسلام السياسى، إخوان مسلمين وغيرهم" استطاعوا أن يستغلوا ذلك ويطاردوا الشيوعيين المصريين بتهم الإلحاد والكفر لقطع صلاتهم مع أفراد الشعب سواء أكانوا مسيحيين أو مسلمين وما زالوا يستخدمون السلاح نفسه فى مواجهة العلمانيين الجدد الذين اكتسبوا الخبرة اللازمة والثقافة الضرورية لمواجهة كل هذه الاتهامات التى لا يراد بها وجه الله بقدر ما تراد بها المكاسب والمغانم السياسية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة