أجمل ما فى مذكرات السيدة هدى شعراوى، التى نشرتها ووزعتها مجاناً جريدة القاهرة - وهو جهد رائع- أنها تنزع القدسية عن زعماء بحجم أحمد عرابى وسعد زغلول ومحمود سامى البارودى وغيرهم، فقد كانوا مع كامل تقديرنا لدورهم الوطنى العظيم بشراً يحبون ويكرهون ويخطئون ويصيبون ويأكلون ويشربون ويمشون فى الأسواق وأحياناً يكونون أنانيين ولا يرون إلا أنفسهم مثل كل الناس، يعنى لا وطن ولا يحزنون.
وتروى السيدة هدى فى مذكراتها التى قرأتها مؤخراً، وقائع تشير إلى أن هزيمة ثورة عرابى واحتلال الجيش الإنجليزى لمصر لم يكن سببه الوحيد الخيانة، كما تعلمنا من الكتب المدرسية، ولكن هناك سبباً أخطر وهو التنافس المرعب بين قادة الثورة لكى يجلس كل واحد فيهم مكان الملك.
كما روت السيدة هدى وقائع أخرى تؤكد أن الزعيم سعد زغلول أفسد أكثر من مرة المفاوضات الدائرة بين الحكومة المصرية والإنجليز حول الاستقلال، ورفض الاقتراح بأن يكون كل ذلك تحت إشرافه وبموافقته، ولكنه رفض وحارب بشراسة كل من تجرأ على مخالفته ومنهم رئيس الوزراء عدلى يكن الذى اتهمه هو وحواريه بالخيانة. ولم يكن السبب أن هؤلاء الذين تفاوضوا قرروا الخروج عن الخط الوطنى أو أنهم خونة، ولكن كان السبب الوحيد هو أن سعد زغلول لم يتصور أبداً أن هناك من يمكن أن يتفاوض مع الإنجليز غيره هو شخصياً، فهو الزعيم الأوحد للثورة. وهناك العديد من الإشارات فى هذه المذكرات التى تشير إلى أن سعد زغلول لم يعد هو الزعيم الذى اختارته الأمة لينوب عنها فى مهمة محددة هى تحقيق الاستقلال، ولكنه أصبح هو نفسه الأمة المصرية، يعنى من يختلف معه فهو لا يختلف مع بنى آدم من لحم ودم ولكن مع أمة بأسرها، بل وفى لحظات أخرى أصبح هو الوحيد الذى من حقه أن يختار لهذه الأمة ما يراه من وجهة نظره مناسباً لها وعليها - أى الأمة- أن تهلل له.
وليس الهدف بالطبع مما ذكرته الإساءة إلى زعيم بحجم سعد زغلول، فهو أرحم من كثيرين مروا على تاريخ مصر، فهو فى النهاية جاء بالديمقراطية وكان يعرف مهما بلغ أحياناً من دكتاتورية أنه يذهب بالديمقراطية أيضاً. فالدرس الأكبر الذى يمكن أن نستخلصه من هذه المذكرات الهامة ومن العديد من وقائع التاريخ أن هناك آلية مصرية لصناعة الديكتاتور، والحقيقة أن الحاكم أو الزعيم ليس هو المسئول وحده عنها، ولكننا مسئولين قبله وبعده، أى الشعب بكل طبقاته، ليس لأننا نسكت عن كل أخطائه وخطاياه، فهذه نتيجة وليست سبباً، ولكن الأهم أننا نميل إلى الانتماء إلى أشخاص وليس إلى أفكار، أو نميل إلى أن ندافع عن الأفكار فى شكل أشخاص ولا ندرك أن البشر ليسوا أفكارا مجردة فقط ولكنها خليط من الخير والشر، من الصواب والخطأ.. وأن علينا أن ندافع عن الأفكار التى تحقق مصالحنا أولاً وأخيراً ونحاسب الشخص أياً كان بمدى تحقيقه لهذه الأفكار أو المطالب، فإذا اقترب مما نتمناه نؤيده وإذا ابتعد عنها نحاسبه، بل ونزيحه من مكانه ليحل محله من لديه القدرة على تحقيق ما نتمناه.
وبدون ذلك سنظل لدينا قدرة فريدة ورهيبة على صناعة ديكتاتوريين يمصون دمنا ونفقد إلى البد القدرة على صناعة حياتنا ومستقبلنا كما نتمناه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة