منذ عدة أسابيع كتب زميلى وصديقى دندرواى الهوارى فى المكان نفسه مقالاً أشاد فيه بالأخلاق المثالية لأحد ضباط المرور الذين عاملوه معاملة مثالية أثناء وجوده بأحد وحدات المرور لقضاء مصلحة ما.. واعتبر الصديق دندرواى أن ما حدث تصرف نادر يجب الكتابة عنه فى زمن أصبحت فيه السلوكيات والأخلاق الرفيعة والأمانة سلعة نادرة.
وأنا من المؤمنين بأن الحياة أدوار فإذا كان دور صديقى إلقاء الضوء على السلوكيات الطبيعية من زواية أنها سلعة نادرة، فإن دورى الذى اخترته وأدفع ثمنه باهظاً هو إلقاء الضوء على السلوكيات المنحرفة باعتبارها سلعة سائدة فتحدى الواقع المتدهور إدمان مؤلم ممتع.
كنت متوجها لمقر عملى بجوار السفارة الأمريكية وهى منطقة تتمتع بحراسة عالية المستوى، نقدرها طول الوقت ونحترمها، وكان يوم صيام رمضانى حار المناخ عانيت فيه ما عانيت بفعل عوامل ذاتية تتمثل فى كهولة سيارتى وأمراضها المتعددة وعوامل موضوعية بفعل ارتفاع حرارة الجو وازدحام الشوارع.
عند وصولى لمقر عملى وجدت منحة إلهية فى انتظارى تتمثل فى مكان أركن فيه سيارتى وحمدت الله على عطاياه التى لاتنتهى وفى آخر حرف من عبارات الحمد قفز أمامى شخص يحمل طبنجة فى جنبه وجهاز لاسلكى قائلاً بحسم ممنوع.. وهى كلمة غير غريبة عنى ولا عن كل المصريين، وخاصة فى المواضع السيادية مثل السفارة الأمريكية.. ولهذا احترمت قراره متوقعاً أن يكون هذا المكان خاص بإحدى سيارات الحراسة أو ممنوع لاعتبارات أمنية فاعتذرت بابتسامة وغادرت المكان.
وبعد ساعة زمن استطعت أن أضع سيارتى فى جراج على بعد أكثر من 4 كم كلها ممنوعة أو محجوزة.
وعند عودتى أشعث مترب عرقان بفعل حرارة المناخ وكهولة سيارتى وجدت حامل الطبنجة وحارس الأمريكان يساعد فتاة على ركن سيارتها فى نفس المكان الذى منعنى منه، فسألته عما يفعله فأجابنى فى تبجح "إيه... دى أخت رئيس مباحث قصر النيل"، وهى كذبة معروفة يمارسها عادة بلطجية الشوارع من السياس عند التنازع على ركن فيخبروك همسا "ده مكان ضابط" لتغادر صامتاً آثراً للسلامة...
لم أقتنع بما قاله وأيضا لم أصدق كذبته بشأن رئيس مباحث قصر النيل رغم عدم أهميتها وتوجهت للضباط الجالسين باعتبارهم رؤساءه، ولما علموا بالأمر قدموا اعتذاراً رقيقاً مهذبا فقد محتواه أمام وقوف صاحب الطبنجة الملكى، وجندى مرور يسألوننى عن صفتى ووجهتى فى تلميحات ترهيب واضحة دون احترام للضباط ولا لخزى الوضع الذى ضبطوا عليه من تأجير الشارع لحسابهم، وليس لحساب الأمن الذى احترمته أكثر من احترام رجاله له.
وهنا تأكدت لى التفسيرات لظواهر منتشرة وإجابات عن أسئلة مثل كيف دخل "التوك توك" مصر بدون ترخيص وبأسلوب غير شرعى.. وكيف غزا شوارع مصر تحت قيادة بلطجية وجدوا فى الفوضى شرعية لوجودهم يخطفون الإناث ويعتدون ويسرقون وينهبون، ولماذا يعيشون فى سلام رغم ما يمارسونه من إرهاب.. ولماذا مصر بلد غير آمنة حتى فى المناطق الحساسة بالنسبة للحكومة مثل السفارة الأمريكية والتى يمكن دخول أى سيارة إلى مناطقها المحظورة بمجردة ترضية فرد الحراسة الذى تفوق قوته قوة رؤسائه من الضباط المهذبين لأسباب لا نعملها.
وأخيرا الفوضى والفساد طوفان لن يسلم منهما أحد لا الشعب ولا الحكومة ولا حتى الأمريكان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة