كان صباحاً مثل هذا اليوم.. الجو حار للغاية، الساعة تمام العاشرة، استيقظت متجهةً إلى غرفة أمى كالعادة، لم أستمع إلى أى من برامج المذياع التى اعتدتها، المؤشر يقف عند نشرة الأخبار، وهى تستمع باهتمام، اندهشت قليلاً، كانت فى سرير مرضها لم تغادره بعد، أخبرتنى أن القوات العراقية دخلت إلى الكويت، وبتلقائيةٍ شديدة أجبتها: وإيه يعنى.. مش هى جزء من العراق!
لم أعر الأمر اهتماماً.. توجهت أصنع لنفسى وأمى كوبين من الشاى، وأمارس حلمى بالجامعة التى أقف على أعتابها. لا تندهشوا، فهكذا تعلمت فى مدارس العراق، وبالتحديد فى حصص الجغرافيا: لم تنفصل الكويت عن ذهنى فى يوم عن جنوب العراق، عدت لأمى بالشاى، لأرى قلقها، أدركت وقتها أن الأمر قد يكون كبيراً، كانت ترقد بلا حول ولا قوة، وأشقاؤها جميعاً هناك.. فى الكويت، طبعاً لم يكن "موبايل" و"إنترنت" و"دش"، كان كل شىء غائماً، كل ما أدركته أنها حريصة بألا تعلم والدتها شيئاً عما حصل، وأبى.. كان يبذل ما فى وسعه، يتصل بأصدقائه فى العراق ليحاول أن يعرف شيئاً جديداً: إذن الأخوال والخالات فى خطر! وأيضاً جيراننا فى بغداد، ما هذا اليوم العجيب؟ الثانى من أغسطس، لم أكن أدرك حينها أنه سيتحول يوماً بعد يوم، ليرتبط فى الذاكرة بكل هذا الألم. أمى.. كانت تتابع الأخبار من فراش موتها، والعائلة تموت قلقاً على الأبناء، وأنا.. لا أفهم شيئاً مما يجرى.
بدأت الجامعة: كل هذا الفيض من التظاهرات والمظاهرات، كل هذا العنفوان الذى لم أتخيله يوماً فى عالمى الصغير، دافعنا كثيراً عن وجهة نظر "رومانسية" لا أكثر، عن ظلم نظام الكويت، والحياة المريحة للمصريين فى العراق، كلنا إصرار على أن ما فعله "صدام" ليس خاطئاً، مظاهرات واعتصامات، وزملاء دخلوا السجون، والعنفوان لم يهدأ.
ثم جاء يناير..
والآن قبل أن يتم هذا الحدث عامه العشرين، لم أعد أنفر من وصف "الغزو" الذى ظللت كثيراً أرفضه، فأنا أذكر جيداً معاناة الجيران التى كانت تأتينا عبر الهاتف وزيارات الأصدقاء، إلى أن انقطع كل شىء، أذكر الأخوال والخالات عائدون يجرون أذيال الخيبة بعد عمرٍ راح فى الخليج.. بلا ثمن أترك حرم الجامعة المتقد بفورة الشباب، أركب المترو وأرى بوادر اكتئاب تزحف على وجوه المصريين.. ولم تغادره حتى الآن: انطفأ كل شىء.. راحت تحويشة العمر.. لم يعد سفرا للكويت أو العراق.. الحرب تدق الأبواب.. والحزن يخيم على كل شىء.
لم أعد أكترث كثيراً لوصف "غزو" أو "احتلال" أو "اجتياح" أو غيرها، الدرس كان أكبر من ذلك، فحصص الجغرافيا لا تستقى صدقها من ثبات طبيعة الأرض، الحدود هى أشياء يرسمها البشر وفقما أرادوا، والقانون الدولى.. يقف فى صف من يمتلك القوة، الفائز دائماً فى الحرب هو الفائز فى كل شىء..
قبل العشرين عاماً بعامٍ واحد، لا يزال التاريخ يؤلمنى، لا أكترث بمن كان مخطئاً، ومن كان على حق، أسرارٌ كثيرة تتكشف يوماً بعد يوم.. عن ذلك اليوم: ليلة ويوم قلبا موازين كل شىءٍ فى المنطقة، والضريبة دفعناها نحن.. كلٌ بطريقته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة