فى "لبنان" قضيت أجمل سنوات العمر وأحلى أيام الشباب الذى ولى وتسرب من بين أنامل زمن صعب ومروع، لكنه كان جميلا، وربما كانت صعوبته وترويعه لنا هى سر جماله وروعته، عشت فى "لبنان" الحرب الأهلية منذ بداياتها الأولى وحتى الخروج الفلسطينى الكبير، وكنت فى الأيام الأخيرة أعمل محررا فى وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" تحت رئاسة الكاتب والمناضل الفلسطينى "زياد عبد الفتاح" أمد الله فى عمره، وجازاه خيرا بما قدمه لكل الكتاب المصريين فى لبنان طوال هذه المدة وما قدمه لى شخصيا، وكنت أتشارك فى غرفة واحدة مع صديقى وأستاذى الكاتب السورى الكبير "حيدر حيدر" الذى دعانى إلى الذهاب معه إلى "قبرص"، لكنى فضلت العودة إلى وطنى "مصر" وإلى مدينتى "الإسكندرية"، ما دامت أرض "فلسطين" التى كنا نحلم بها كانت بعيدة، وازداد بعدها بعد الخروج من "لبنان"، حيث لاحت "أوسلو" فى الأفق بعد ذلك.
لم أحب بلدا غير "مصر" أكثر من "لبنان" و"سوريا" ولا مدينة أكثر من "بيروت" و"دمشق"، بيروت الرائعة رغم طلقات الرصاص وقذائف الـ "بى سفن" والقتل على الهوية، فقد كانت وطنا للحرية والثقافة والأمل الرائع الذى كان يرفع الراية باتجاه فلسطين، فى "لبنان"، بلد التناقضات، يكثر اللاعبون فى ملعب السياسية، فالبلد مبتلى بثمانية عشر طائفة، وأشد ابتلاء بأحزاب من كل صنف، وبعض هذه الأحزاب على علاقة واضحة مع دول وجهات خارجية من جهة، ومن جهة أخرى يضع الواقع الإقليمى والدولى لبنان دائماً فى مهب الأعاصير، فموقع لبنان الذى تغنت به "فيروز" دائما بصوت الملائكة كان – دائما - من أسباب "اللعنة" التى تطارد "بلد الأرز" الذى يقف دائماً "فى ممر الفيلة." التى تمر عليه وهى تطحن الأغصان والزهور بأقدامها ثقيلة الوطأة دائما، وكانت "سوريا" دائما هناك، ليس بصفتها "أحد الفيلة" لكن بصفة شديدة الخصوصية ندر أن توجد مثلها فى علاقات الدول ببعضها البعض حيث تعتبر العلاقة بين "لبنان" و"سوريا" واحدة من أبرز محاور الخلاف المحلى والدولى، خصوصا وأن "سوريا" كانت ترسل دائما إشارات ملتبسة حول درجة قبولها بوجود "لبنان" كدولة مستقلة بحد ذاتها، للدرجة التى منعت "الدولة السورية"، على اختلاف حكامها وأنظمتها من افتتاح سفارة لها فى "دولة لبنان" حتى آخر شهر من أشهر عام 2008 بالرغم من استقلال لبنان عام 1943.
قد كانت بعض القوى الوطنية اللبنانية إلى وقت قريب ترى أن لبنان- مهما كبر أو صغر هو قطعة من سوريا- وعارضت ذلك قوى لبنانية أخرى، جلهم من المسيحيين الموارنة، اعتبروا "لبنان" دائما كيانا مستقلا قائما بذاته، مما تسبب ذلك فى انقسامات بين اللبنانيين وظهرت هذه الانقسامات بوضوح شديد فى محاولات عديدة لتدخل دمشق بالشأن اللبنانى، عبر دعم تحركات مسلحة "انقلابية" نفذتها بعض التنظيمات، مثل حركة الحزب السورى القومى الاجتماعى، بقيادة "أنطون سعادة"، والتى فشلت وأدت إلى إعدامه رميا بالرصاص عام 1949، ولم يكن هذا التورط فى الشؤون اللبنانية حالة سورية خالصة، فكانت "لبنان" توفر الملاذ الآمن للاجئين السياسيين السوريين المعارضين لنظام الحكم فى سوريا، كما كانت توفره دائما لكل المعارضين لنظم الحكم العربية والإيرانية فى هذا الوقت، الأمر الذى كان يثير حفيظة "دمشق" القلقة من تحول "بيروت" الجميلة إلى قاعدة للانقلابات أو التأثير فى شؤون "سوريا" نفسها، ثم ظهرت نظرية "الخاصرة الرخوة" بعد ذلك وهى "النظرية" التى تعتبر أن "لبنان" نقطة ضعف فى الدفاع الاستراتيجى السورى، حيث يمكن للجيش الإسرائيلى اختراقه بسهولة والالتفاف على القوات السورية فى حال وقوع مواجهة، مما يوجب تواجد دفاعى سورى فى لبنان، وقد سخر بعض السياسيين اللبنانيين من هذه النظرية بقوله إن سوريا هى "الخاصرة الرخوة" للبنان حيث إن "دمشق" لعبت دور المتفرج فى المواجهات العسكرية المتكررة بين "لبنان" و"إسرائيل" طوال السنوات الماضية، مما يجعل من سوريا "خاصرة رخوة" للبنان .
أما على المستوى الدولى، فيبدو لبنان أيضاً بين شقين رحى، بحيث التوافق حيناً والخلاف أحياناً، وخاصة على صعيد المواقف فى العواصم الغربية المعنية بالمسألة اللبنانية، وفى مقدمتها بالطبع باريس وواشنطن، فبالنسبة لفرنسا كانت فترة حكم الرئيس السابق "جاك شيراك" تمثل الفترة الذهبية لقوى الغالبية النيابية "14 آذار"، وذلك باعتبار أن "شيراك" كان صديقاً شخصياً لرئيس الوزراء الراحل "رفيق الحريرى"، وقد قام بزيارة ضريحه بعد أيام، كما قاد عالميا معظم الجهود الرامية إلى تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتياله، وقد استخدم شيراك القدرات الدبلوماسية الفرنسية فى المنطقة لعزل "دمشق"، فيما شكل الملف اللبنانى سببا للتواصل بين "باريس" و"واشنطن" بعد سنوات من "عدم التواصل" بسبب رفض "فرنسا" المشاركة عسكرياً بغزو "العراق"، حيث دخلت "واشنطن" بقوة على الملف اللبنانى من باب مشروع "نشر الديمقراطية" الذى أسسه الرئيس الأمريكى "بوش" غير المأسوف عليه من أحد وأيدت حركة "14 آذار" التى أطلقت على تحركاتها اسم "ثورة الأرز"، وخفضت تمثيلها الدبلوماسى فى "دمشق" وقدم "بوش" دعماً شبه يومى لمطالب القوى اللبنانية المناوئة لسوريا، كما استقبل معظم قادتها فى البيت الأبيض، وقدم دعماً مالياً وسياسياً للمحكمة الدولية التى تكونت خصيصا لإدانة النظام الحاكم فى سوريا، لكن مع انتخاب "ساركوزى" رئيسا لفرنسا فقد بدأت بدايات التبدل فى خطوات الدبلوماسية الفرنسية يظهر ابتعاد "ساركوزى" عن إرث "شيراك" إلى جانب عمله على مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط" الذى يعتبره مشروعاً شخصياً بالنسبة له، وما زال "لبنان" يموج بالحراك إقليميا وعالميا مقدِما نموذجا فذا فى حب الحياة، ومازلنا نحب لبنان وما زلنا نغنى مع "فيروز" صوت الملائكة فى جبال لبنان أغنيتها الخالدة: "سألونى شو صاير ببلد العيد.. مزروعة ع الداير نار وبواريد.. قلتلهن بلدنا عم يخلق جديد.. لبنان الكرامة والشعب العنيد.. بحبك يا لبنان" نعم نحن نحبك يا لبنان وبلا حدود.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة