احتجت لسنوات طويلة حتى أعرف أن الصحفى الكبير الأستاذ محمود المراغى كان على حق، وأننى من الذين لم يقدروه حق قدره، بل وكنت من الذين أساءوا الظن به. فقد كان، رحمه الله، منحازا لقواعد المهنة أكثر بكثير من الانحياز السياسى، وكثيرا ما كان يطالبنا، ونحن محررين صغار، بألا نحول موضوعاتنا إلى حرب عدائية ضد أحد، ولا نغرز السكين فى قلب من ننتقده حتى لو كنا مختلفين معه، فكان رحمه الله رحمة واسعة يرى أن الصحافة دورها التفاعل الإيجابى مع المجتمع والسلطة الحاكمة.
كان الرجل ناصرياً، ليس بالمعنى الهتافى الساذج، ولكن بالمعنى العميق، ولذلك كانت رسالته طوال عمله سواء كمحرر اقتصادى لامع، أو فى أى موقع هى الانحياز للفقراء. ولكنه كان يدرك، وهو رئيس تحرير جريدة العربى التى يصدرها الحزب الناصرى، أن توصيل رسالته الناصرية لا يعنى تجاوز القواعد المهنية، بل إن احترامها هو الذى يصون الرسالة وتجعلها أكثر تأثيرا. فكان يتمنى ألا ننتقل من خانة أننا صحفيون إلى المعارضة "عمال على بطال"، ولكنها معارضة كل ما هو سلبى، وتأييد كل ما هو إيجابى.
لكننا كنا صغارا ومتحمسين، نتصور أنه يمكننا هدم نظام الحكم بالصراخ، وليس ببناء وعى جاد للتغيير، ولذلك كنت من الذين اصطدموا به كثيرا، ومن الذين أساءوا إليه، ولكنه كان عفيف اللسان، لا يهين أحدا، فالكبار لا يقعون فى أفخاخ الصغار، بل كثيرا ما كان يدير نقاشات حول الأداء فى الجريدة يسمع فيه ما لا يحب، ويناقش بصبر لم يكن مضطرا إليه.
هذا لا يعنى أنه رحمه الله كان بلا أخطاء، فمن منا بلا أخطاء، ولكنها الأخطاء العادية، التى لا تدمر من يعملون معه، فرغم أنه يرأس تحرير صحيفة ناصرية، ولكنه اختار أن يكون معيار اختيار العاملين فيها هو الكفاءة أولا والناصرية ثانيا، وقال وقتها نريد للعربى أن تكون صيغة ديمقراطية لكل القوى الوطنية.
جاء المراغى فى غير أوانه، ربما لو كان معنا الآن، لاستطاع بناء المدرسة الصحفية التى كان يحلم بها، وحصد ما يليق به من حفاوة وتقدير، رحم الله الرجل ورحمنا من خطايانا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة