فى طفولتى غير البعيدة عن ذهنى، كانت تنتابنى لحظات ادعاء وفخر بمميزات بطولية أو استعراضية وهمية تسكرنى بحالة من الزهو المفرط لا ينهيها إلا كلمات إفاقة تلقيها أمى رحمها الله فى وجهى، أعود بعدها إلى حالتى الطبيعية "قالوا أبو قردان غرقان فى الشكولاته قلنا كان بان على عرقوبه".
ويمرق الزمن حاملا أحداثا كثيرة جدا إلى أن سمعت عن إعلان جماعة ضد التمييز الدينى فى مصر.. فأسرعت بلا تردد إلى الانضمام إليها بحكم كراهيتى لأى نوع من أنواع التمييز.. المهم... بعد فترة ليست طويلة اكتشفت أن الجماعة التى عقدت عليها الأمل قد تحولت بقصد أو غير قصد إلى عنصر من عناصر تأكيد التمييز الدينى والطائفية فى مصر، هذا ما أكده "عرقوب" الجماعة الواضح.
أدبيات الجماعة ودعايتها يدور معظمها حول مظاهر اضطهاد للمسيحيين فى مصر. كأن يُنشر موضوع عن مقتل مسيحى بيد مسلم، أو قيام ناظر مدرسة بمنع مسيحية ترتدى البنطال من دخول المدرسة أو اسلام مسيحى أو مسيحية كرها أو تدريس الدين الإسلامى للمسيحيين عنوة ضمن مناهج اللغة العربية. تشعر وأنت تقرأ أدبيات الجماعة أنك فى مجتمع مختلف عن المجتمع المصرى الذى نعرفه.. والحقيقة أن الوقائع التى تتحدث عنها الجماعة معظمها، وإن لم يكن كلها هى وقائع حقيقية.. الخلاف فقط فى القراءة والتفسير.
المصريون يعيشون سويا منذ آلاف السنين باختلاف عقائدهم وديناتهم ومن الطبيعى أن تتقاطع بهم الأحداث بحلوها ومرها، فكما يتعايشون ويتزاورن ويودون ويتحابون دون اعتبار لاختلاف العقيدة فهم أيضا يختلفون ويتكارهون ويقتتلون دون أى دوافع عقائدية ولم يعرف الفولكلور المصرى التقسيم العقائدى للمعايشة اليومية فلم نسمع عن مسيحى يتشاجر مع مسلم فيسأله عن ديانته قبل البدء فى المشاجرة، أو نشال يفحص بطاقة منشول للتأكد من ديانته قبل نشله. أن يقتل تاجر مسلم آخر مسيحى لخلاف حول نقود، هذا أمر ليس له علاقة بالعقيدة.. بل هو أحد دلالات طبيعية العلاقة، فالأمر مثلاً يتساوى مع قتل تاجر صعيدى لتاجر منوفى لماذا تضع الجماعة اعتبار الاختلاف فى الدين ولا تضع مثلاً اعتبار الاختلاف فى المنشأ؟.
ركزت الجماعة على قضية إسلام بعض المسيحيين وأدانت هذا السلوك وأرجعته إلى ضغوط ولم تعترف بأن هذا أمر يدخل ضمن الحرية الشخصية وفى نفس الوقت استهجنت نفس الجماعة سلوك البعض الذى أدان تحول مسلم إلى المسيحية، واعتبرت أن الإدانة تدخل فى الحرية الشخصية وحرية العقيدة التى نص عليها الدستور؟!!! تحدث مؤتمر الجماعة الأخير عن التمييز الدينى فى التعليم واستند على تدريس مواد من القرآن ضمن مناهج اللغة العربية، واعتبر أن هذا اضطهاد لمشاعر وثقافة الطلاب المسيحيين وأحد مظاهر التمييز.
وأوضح أن تدريس القرآن ضمن مناهج اللغة العربية هو أحد الوسائل القوية لتعليم النحو والصرف وهو أمر يحدث منذ مئات السنين، ولم يؤد إلى أى طائفية بل على العكس ربما يكشف عن تقارب فى المحتوى الخير للأديان.. والتعامل مع الكتب السماوية باعتبارها جزءا من منظومة الفكر والفلسفة واللغة هو أمر طبيعى وشائع، فأنا مثلا كنت أدرس الفلسفة المسيحية والقديسين انسلم وتوما الاكوينى ضمن منهج الفلسفة فى الثانوية العامة، ولم أشعر بأن أحدا يفرض علىّ الدين المسيحى.. كما أننى قرأت فى الكتاب المقدس خلال محاضرات اللغة القبطية التى درستها فى الجامعة ولم يكن تمييز.. فما الداعى لهذه الجلبة المصطنعة ولحساب من؟
الشىء الغريب أن تتغاضى الجماعة عن أحداث رهيبة تفرض نفسها على الساحة مثل مذابح غزة بحجة أن هذا الموضوع ليس ضمن اهتماماتها وأهدافها وفى نفس الوقت تعلن عن مقتل مسيحى بيد مسلمين، فلو سلمنا بالتقسيم الطائفى الذى تفرضه علينا الجماعة لوجب علينا وعليهم الاهتمام بأحداث مذابح غزة من زاوية أن آلاف المسيحيين والمسلمين قُتلوا على يد يهود.. ولكن كما سبق وأن قلت الغرض مرض. تتحدث أدبيات الجماعة عن مسيحيين لم يحصلوا على فرص عمل بسبب عقيدتهم، وهم بذاك يغضون البصر بعمد أو غير عمد عن أزمة اقتصادية طاحنة وفساد أدت إلى تعطل الملايين من المصريين مسلمين ومسيحيين.
النتيجة الواضحة لنشاط هذه الجماعة هو المساهمة فى استنفار روح وسلوك التخلف لدى أصحاب العقائد المختلفة.. فتظهر جماعات إسلامية هدفها الرد على المسيحيين وتظهر جماعات مسيحية للرد على الجماعات الإسلامية وجماعات تنتصر لهذا وأخرى تنتصر لذاك.. وكلها تستخدم أدوات إعلامية باهظة التكاليف.. من أين هذه التكاليف ولماذا؟؟ اعتقد أن مصدرها كلها واحد من الداخل أو الخارج! والغرض هو الابتعاد عن الأسباب الحقيقية للتردى الواضح فى الأوضاع الاقتصادية والسياسية للوطن وشغله بقضية وهمية طائفية تلهى أبناءه عن مقاومة السير فى طريق التبعية المفروضة عليه.. وهذا يكشف عن سر البذخ فى الصرف على هذه الجماعات المتطاحنة وغيرها.
لا أتهم أحدا بالعمالة ولكنها غشاوة بصر منعت أصحابها من الشرفاء من رؤية مخطط محكم للقضاء على هذه الأمة وتحويل القضايا الوطنية إلى قضايا طائفية.. وأيضا لا أحجر على هذه الجماعة أو غيرها ولا أتهمهم بل أؤيد حقهم فى الوجود العلنى وحقنا جميعا فى مناقشتهم ومناقشة أنفسنا. وكل واحد "باين من عرقوبه".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة