يقلقنى ويوترنى ويهيج أفكارى تغير الثوابت، فأنا ابن لزمن كان أميز ما فيه ثوابته سواء كانت خيراً أو شراً.
فى الستينيات من القرن الماضى, الذى أنتمى إلى أواخره, أتحفنا الكاتب ألفريد فرج برائعته "على جناح التبريزى وتابعه قفة"، والتركيز فى رائعة ألفريد فرج، كان على شخصية "التبريزى" التى نشرت الوهم حول نفسها، بعد أن فقد كل ثروته ليضمن استمرار التفاف الناس حوله، وكأى شخصية محورية كان له تابع "قفة" الذى هو كاتم أسراره ومنبع معلوماته وبوق دعايته، هو المخلص الأمين لسيده، و"قفة" دائما ما تقف حدود صلاحيات مواهبه عند السيد، فهو لا يستطيع خدمة سواه حتى لو طوقته الحاجة ولبسه الفقر، ليس عن إخلاص إنما هى نفسية لا تعمل إلا تحت قيادة سيد، ويرهقها البحث عن آخر، وجزء كبير من عطاء السيد ومكافأته لـ "قفته" يكون من خلال التغاضى عن ما يحصل عليه "قفة" من فتات امتيازات السيد.
وسواء كان هدف ألفريد فرج فى مسرحيته، الإشارة إلى ثقافة الوهم التى اُشيعت فى ذلك الوقت فى مواجهة الهزيمة أو غير ذلك، فإن الشخصيات الدرامية كشفت عن ثوابت فى تركيبة شخصيات المجتمع آنذاك، أميز ما فيها "قفة" التابع، الهايف الملامح القوى التأثير.
المنطق الإنسانى الساذج يصور لنا أن التطور الطبيعى للعلاقة بين قفة وسيده ستنتهى بنفس الثبات الذى بدأت عليه بمنطق أمثلة نفس الزمن "العين متعلاش عن الحاجب"، وهو بالنسبة لأبناء الثوابت مثلى نوعاً من الاستقرار المريح بمنطق "اللى تعرفه أحسن من اللى متعرفهوش"، ولكن تأتى الأزمنة بما لا يشتهى المستقرون، تولى قفة دفة القيادة بعبقرية دون أن يتخلى عن موقعه كقفة، ودون أن يزيح السيد عن كرسيه، ولعب الزمان بالمنطق فأصبح السيد تابعاً لقفة دون أن يفقد السيد وجهاته ولا قفة حقارته.
أصبحت المقدرات بيد قفة، وتغيرت ملامح شخصيته، فظهرت له أنياب ومطالب خاصة تجاوزت ما كان يحصل عليه من فتات السيد الذى قبع على كرسى السيادة فى خيلاء أشبه بالملكة الأم فى إنجلترا، بينما تكاثرت "القفف" وملكت نواصى الأمور، ونشرت ثقافتها فى المجتمع، من أهمها الإعلاء من شأن التافهين وتدمير المواهب والإمكانات، خوفاً من عودة المنطق إلى مساره مرة أخرى، فتفقد القفف ما سلبته سنوات الغفلة.
وملامح القفف ومظاهرها كثيرة، فى مقدمتها ارتداء أثواب الريادة حتى لو لم تلائمهم، فأصبحت الصورة أشبه بالمسخ الذى يرتدى رداءً جميلاً شالحاً عليه كاشفاً كل أعضائه البشعة.
أما أدوات القفف، فمتعددة، أبرزها الجهل الذى أصبح مصدراً للقوه والخيلاء وامتلاكاً للمقدرات يقطرون بها على البسطاء والموهوبين بالقدر الذى يضمن استمرارهم فى فلك الحاجة ورغبة العودة للتحقق.
ما زال السيد مصدر كل البلاء قابعاً فى قصره الخفى، تتأكله الشيخوخة حتى تجاوز ما بعد الموت، وما زلنا رافعين يد الحاجة نتناول بها الفتات ومسار الأدوار المفروضة علينا، مدثرين بغطاء الإيمان بالأقدار لنؤمن طرقاً جديدةً لمزيد من القفف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة