◄ليس هناك كاتب أو صحفى عربى تسعى وراءه الصحافة الأمريكية أو الأوروبية وتستكتبه بشكل دائم ومنتظم
الحكاية كلها.. اختصرتها أكثر من صحيفة يومية مصرية خرجت كل منها لقرائها فى اليوم التالى لحفل تنصيب الرئيس الأمريكى تؤكد أن الاتصال التليفونى بالرئيس مبارك كان من أول وأهم الأمور التى حرص عليها باراك أوباما بعدما أصبح الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.
ولست أعرف إذا كان الرئيس مبارك يقرأ مثل هذا الكلام أو يحفل به، ولكننى واثق تماما أن كل من كتب أو نشر هذا العبث والكلام الفارغ، كان فى حقيقة الأمر يرتكب أكثر من جريمة فى وقت واحد.. جريمة الكذب على الرئيس والقارئ.. فالرئيس أوباما فى تلك اللحظات كان مشغولا ومأخوذا بهموم وقضايا أخرى ليس من بينها الاتصال برؤساء آخرين، وجريمة تسطيح كل القضايا وممارسة السذاجة حتى آخرها فى تناول ملفات تخص الوطن ومستقبل الناس ودواعى الحياة فى هذا الوطن.. أما الجريمة الثالثة فهى تتعلق بصحافة، وإعلام فى عمومه بات عاجزا عن ممارسة دوره والقيام بمهام وواجبات مفترض أنها تخصه وأنه ملتزم بها، وهذه هى القضية الحقيقية التى لابد من التوقف عندها كثيرا وطويلا.. قضية الإعلام فى مصر.. إعلام ثبت يوما وراء يوم أنه عاجز عن القيام بدوره ومساعدة الحاكم والمحكوم فى مصر على أن يتابع، ويعرف ويفهم ويشارك كل ما يجرى فى مصر وفى هذا العالم، وما علاقة مصر والمصريين بكل هذا الذى يجرى.
وأنا هنا.. لا أتحدث عن الوظائف الطبيعية والتقليدية التى يقوم بها أى إعلام فى الدنيا.. أخبار وحكايات وصور وحوارات.. مقالات وتعليقات وبرامج ومناقشات.. وإنما أقصد الرؤية التى يملكها هذا الإعلام والاستراتيجيات التى بمقتضاها يضع هذا الإعلام سياساته وتصوراته ويضع حساباته ويحدد مقاصده وأهدافه، إذ أنه من المؤكد أن هذا الإعلام بجميع أشكاله ونوافذه يدرك قيمة الولايات المتحدة وقدرتها على التأثير فى مسارات العالم سياسيا واقتصاديا.. ومن المؤكد أن هذا الإعلام على اختلاف قناعاته وثوابته وحساباته يكره إسرائيل ويحاربها ويرفض سياساتها وجرائمها.. ومن المؤكد أنه إعلام مثل أى إعلام آخر فى الدنيا يود أن يقود الرأى العام فى بلاده، وأن يشارك فى الحكم وأن يستمتع بالسلطة التى لا يمكن تعطيلها أو تجميدها أو إلغاؤها، فماذا فعل وقدم هذا الإعلام سواء لمتابعة ما يجرى فى الولايات المتحدة، أو لينتصر على إسرائيل، أو ليؤكد شرعية سلطاته ونفوذه وقيادته للرأى العام فى مصر.
بالنسبة للولايات المتحدة.. بعضهم اختصر الأمر فى المكالمة التليفونية أو البرقية التقليدية من وإلى الرئيس مبارك من رئيس جديد للولايات المتحدة.. والبعض الآخر تخيل أن دوره هو متابعة تفاصيل حفل التنصيب ليشاهده الناس وكأنهم يشاهدون فيلما سينمائيا جديدا ومثيرا يخلدون بعده للنوم أو يتناولون طعام العشاء، ونسى الجميع الحدث الأهم والأولى بالاهتمام والمتابعة، وأقصد به أمة أمريكية تتغير وتتبدل فيها قواعد وثوابت لا أول لها ولا آخر، فلم يرصد الإعلام المصرى ظاهرة جديدة تمثلت فى عدد كبير جدا من مستشارى أوباما وموظفى إدارته يجمعون بين أمريكا كوطن حال لهم وبين أوطان أخرى يحتفظون بها تحت جلودهم أو فى ذاكرتهم، ومنهم من عاش معظم سنوات العمر خارج الولايات المتحدة، ورغم ذلك تبقى مصر غائبة، بعكس إيران على سبيل المثال التى نجحت فى أن تكون حاضرة فى حفل التنصيب وفى السنوات الأربعة القادمة عن طريق فاليرى جاريت المولودة فى مدينة شيراز، والتى أصبحت كبيرة مستشارى أوباما للشئون الداخلية.. وأنا أعلم بالطبع أن غياب أى أمريكى من أصول مصرية عن إدارة أوباما التى فتحت أبواب البيت الأبيض لكثير من المهاجرين والمغتربين.. ليس خطأ أحد.. لا إدارة مصرية ولا إعلام مصرى.. ولكنه مشهد كان ولا يزال يستحق التوقف.. والتساؤل أيضا.. مثلما كان أولى بالإعلام المصرى أن يقدم للرئيس وللناس فى مصر صورة واضحة ومليئة بالتفاصيل عن إدارة جديدة لأمريكا، وأن تكون هناك رؤية مصرية خاصة لما يجرى فى واشنطن وكيف يمكن استغلال ذلك لمصلحة مصر ولتحقيق ولو أقل قدر من المكاسب السياسية والإعلامية.. تماما مثلما جرى فى إسرائيل أو فرنسا أو إنجلترا أو الصين، فالإعلام فى تلك البلدان وغيرها لم يكتف بنقل تفاصيل حفل تنصيب أوباما، ولكنهم انشغلوا أكثر بما يمكن أن يفكر فيه أوباما وما هى المتغيرات التى ستطرأ على سياسة الولايات المتحدة مع أوباما.. ولن أكون مبالغا أو متجنيا إن تخيلت الإعلام الرسمى فى مصر لا يزال ينتظر تحديد موعد لزيارة الرئيس مبارك إلى واشنطن ليقيم الأفراح والمهرجانات والالتفات إلى العاصمة الأمريكية وما يجرى فى كواليس مكاتبها وأروقة إدارة حكومتها.. وبمقارنة ذلك بالإعلام الإسرائيلى المشغول طيلة الثمانى والأربعين ساعة الماضية بتحليل لماذا لم يذكر أوباما إسرائيل ولو مرة واحدة فى خطاب التنصيب رغم أنه حرص على ذكر العالم الإسلامى والتحاور معه، وكان ذلك واحداً من إشارات كثيرة توقفت عندها الصحافة الإسرائيلية وبرامج التليفزيون هناك، وبدأ الإعلام الإسرائيلى يقود محاولات الفهم وبدأ يرشد الحكومة والإدارة الإسرائيلية نفسها فى أفضل وأنسب الطرق للتعامل مع أوباما.. وبدون أن أسأل أو أتقصى.. أتخيل صحفيين كباراً فى إسرائيل اجتمعوا برئيس حكومتهم ووزيرة خارجيتهم وقدموا لهما الرؤى والاقتراحات والحلول، وهو ما أتخيل أنه لم يحدث عندنا.. وأن أيا من صحفيينا الكبار لم يتحول إلى تلميذ مجتهد ومخلص لمدة ثلاثة أو أربعة أيام ليذاكر أوباما وتركيب إدارته ويقدم فى النهاية الرأى والنصيحة والمشورة للرئيس ولوزارة الخارجية، فنحن لسنا الإعلام الذى يبادر أو يقود.. نحن إعلام رد الفعل وفن الحياة والبقاء خارج الزمن ودوائر الاهتمام والقرار.
وإذا كان هذا هو حال إعلامنا مع الولايات المتحدة بكل ما تعنيه وتمثله علاقتنا بها سواء على المستوى الرسمى أو الاقتصادى، فإن حال إعلامنا مع إسرائيل كان أسوأ، والأخطاء كانت فادحة وفاضحة أكثر.. وقد توقفت عند تصريح عابر قالته تسيبى ليفنى، وزيرة خارجية إسرائيل حين سألتها محررة النيوزويك «لالى ويموث» عن حماس بعد الحرب فى غزة.. فقالت ليفنى إنها واثقة أن حماس ستجد فى قناة الجزيرة مكانا تزعم فيه الانتصار حتى وإن لم تكن لذلك أى علاقة بالواقع، ورأيت فى هذا التصريح تلخيصا للفارق بين إعلامنا وإعلامهم، أو الفارق بين إعلام المباشرة والخطابة والصوت الزاعق وبين إعلام يشارك إدارة بلده حروبها وقضاياها ورؤاها، ويكفى للتدليل على ذلك أن نتوقف عند ما قام به الاثنان.. إدارة إسرائيل وإعلامها.. أثناء الحرب فى غزة.. فإسرائيل منعت كل المراسلين الأجانب من دخول غزة رغم طلبهم وإلحاحهم، وبالطبع أستطيع أن أتفهم كل دوافع إسرائيل ودواعيها لمثل هذا القرار الصارم الذى لم يحظ بأى استثناءات، فإسرائيل وكما أكد الصحفى الأمريكى أندرو تيندال أرادت ألا يقدم الإعلام العالمى صورا لما يجرى فى غزة إلا ما يتوافق مع هواها وحساباتها، وكانت إسرائيل تعرف أنها ستقتل المدنيين والأطفال فى غزة، وستقصف مستشفيات ومدارس وبيوتاً وملاعب كرة.. ولكنها لم تكن تريد أن يعرف العالم أو يرى ذلك بعيون أى صحفى أمريكى أو أوروبى.. لم تكن تريد مثل هذا التعاطف أن يبدأ ولا أن يكبر وليس باستطاعتى أن ألوم إسرائيل على ذلك، ولكن يبقى من حقى أن أسأل عن الإعلام العربى.. لماذا لم يثر هذه القضية من قبل؟.. لماذا لم تستضف قناة مصرية واحدة صحفيا واحدا من الأوروبيين أو الأمريكيين الذين منعت إسرائيل دخولهم؟.. فالإعلام المصرى الذى كان مشغولا بتصفية حسابات الكراهية والغضب مع إعلام عربى لم يقل عنه تسطيحا أو غفلة أو سذاجة.. فاته أن يشارك فى الحرب الإعلامية الحقيقية والدائمة بين مصر وإسرائيل، وبين العرب وإسرائيل، والتى تنتصر فيها إسرائيل دائما، وقد يجلس صحفيون مصريون، أو يكتبون أو يتحدثون مع أصدقائهم فى الفضائيات المصرية والعربية.. ويبدى كل هؤلاء الدهشة من العالم المتحضر الذى يرى جرائم إسرائيل فى غزة ولا يهتز ولا يرتعش ولا ينتفض من الحزن والغضب.. ولهؤلاء أقول إنه لا داعى لكل هذه الدهشة وكل هذا الاستغراب، فأوروبا والولايات المتحدة من ناحية لم يروا الكثير مما جرى فى غزة.. لأنه لا الصحافة ولا التليفزيون هناك نجح أحد منهم فى دخول غزة.. ولأن الذاكرة الغربية الجماعية لا تزال تحتفظ بكثير من الحكايات والذكريات التى تجعل من الصعب، أو من المستحيل الاعتماد على الإعلام العربى فى نقل ما يجرى.. ولم ينس أحد بعد مأساة مخيم جنين عام 2002 حين راح الإعلام العربى يولول ويبكى سقوط ألف فلسطينى شهيدا بعد أن قتلتهم إسرائيل.
ثم تبين أن كل خسائر معركة جنين كانوا خمسين فلسطينيا واثنين وعشرين إسرائيليا.. وبالطبع كان من المنطقى أن يصدق الإعلام الغربى، والشارع هناك، جابرييلا شاليف مندوبة إسرائيل الدائمة لدى الأمم المتحدة حين تزعم أن كل الأطفال الذين ماتوا فى غزة إنما كانوا الدروع البشرية التى لجأت إليها حماس فى مواجهة الجيش الإسرائيلى.. أى أننا أصبحنا نحن الذين نقتل الأطفال.. نحن الذين لا مشاعر لنا أو قلوباً فى داخلنا فيحتمى كبارنا بصغارنا.. هكذا أصبح كثيرون فى العالم يرون حماس وكل العرب.. لأننا نحن العرب لدينا الحكومات والسلاح ولكن ليس لدينا إعلام.
كل ذلك يجعلنا نتوقف عند ظاهرة مقلقة ومزعجة، وهى أنه ليس هناك كاتب أو صحفى عربى تسعى وراءه الصحافة الأمريكية أو الأوروبية وتستكتبه بشكل دائم ومنتظم، وليس لدينا صحفيون يعملون فى كبريات الصحف هناك، لأننا فى حقيقة الأمر منكفئون على أنفسنا ولا ننظر إلا تحت أقدامنا، ولا تبدأ الحياة عندنا أوتنتهى إلا بالرئيس.. إعلام حكومى يمدحه ويشيد به وإعلام معارض يلعنه ويهاجمه.. وكأن هذا هو الإعلام والمطلوب من الإعلام.
ويبقى الملف الثالث، والخاص بالإعلام أيضا.. وهو قيادة الرأى العام، وكالعادة.. لا يزال إعلامنا ينتظر أن يمن القدر عليه بقضية شائكة مثل مقتل ابنة المطربة ليلى غفران، أو محاكمة رجل أعمال فى وزن هشام طلعت مصطفى قبل حظر النشر والكتابة والحديث عنه وعن قضيته.. ونسى هذا الإعلام أن النجاح الحقيقى هو أن تصنع قضيتك لا أن تجلس القرفصاء تنتظر أن تأتيك فرصة أو قضية أو حكاية تهم الوطن والناس فى هذا الوطن.. نسى هذا الإعلام قضايا شائكة ومقلقة وعاجلة وملحة.. نسى ملفات مخلفات المستشفيات والتلاعب بالأغذية والإتجار بالمصريين وأعضائهم.. وفى كل هذه القضايا لم نجد الحملات الإعلامية المكثفة الصاخبة والزاعقة والغاضبة التى تطارد مجرمين يسرقون الحياة والأمان والمستقبل من هذا الوطن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة