الحكومة المصرية.. وتجربة نيويورك
أنا لا أحتاج لكثير من الكتابة.. ولا أنت تحتاج لكثير من القراءة.. لنتفق معا على أن أحد وزرائنا.. أو حتى كل وزرائنا.. فاسدون ومرتشون وأصحاب مصالح خاصة.. فقد أصبحنا نعيش مناخا يسمح بذلك.. ويشجع على ذلك.. ولم تعد مثل هذه الاتهامات تحتاج إلى تدليل أو تدقيق.. فهى تقال الآن كما لو كانت تحية للصباح أو المساء.. ولا يحتاج أى أحد لأكثر من نصف ساعة فى مقهى أو فى إحدى سيارات الميكروباص لينتابه إحساس بأنه وأننا نعيش فى وطن، تحكمه عصابة من اللصوص وقطاع الطرق.. والأخطر من كل ذلك أن مثل هذه الاتهامات لم تعد تثير أى عواصف للغبار أو الدهشة والغضب.. اتهامات يتلقاها الناس وحكايات يتداولونها دون أى انزعاج، وكأن هذا هو الطبيعى.. والمشكلة الحقيقية لا تبقى مثل هذه الاتهامات المرسلة، والتى لا أول لها ولا آخر.. وإنما تبقى أن أحدا لا يتحرك أو يهتم.. وكأن هناك اتفاقا غير مكتوب بين كل الأطراف على هذه اللعبة، والاستمرار فيها والاستمتاع بها أيضا.. فالحكومة اعتادت على اتهامها كل يوم وطول الوقت بالفساد، ولم تعد تلتفت أو تكترث بما يقال عنها أو أحد وزرائها، وهى سعيدة لأن كثرة هذه الاتهامات المرسلة، أفقدت كل الاتهامات مصداقيتها وقدرتها على التأثير.. والمعارضة التى لا تتخيل لها وظيفة إلا تعرية الحكومة كل صباح من أية ثياب للفضيلة والوقار، بدت سعيدة وهى ترى كثيرين جدا يقومون بدورها، ويعفونها من تعب ومشقة البحث عن اتهامات وفضائح جديدة.. والإعلام اعتاد اتهام الحكومة بالفساد، سعيدا بأنه بذلك أدى ما عليه، وقام بدوره، وأسعد الناس، وأنقذ الوطن.. والناس فى الشوارع والبيوت باتوا سعداء جدا بذلك، ويستمتعون بمثل هذه الفرجة ويتوازن الكثيرون منهم نفسيا، حين يجلس الواحد منهم يسخر من وزير أو مسئول كبير، ويشعر المواطن المقهور بأنه هكذا يتعادل ويسترد كثيرا من حقوقه الضائعة
وللأسف.. لم يعد باستطاعتى مسايرة الآخرين فى مثل هذه اللعبة.. وما أزال أرفض أن أحيل الوطن الذى أسكنه إلى لعبة أو إلى ساحة للعب.. ولن أكتب الآن عن واقعة فساد جديدة او قديمة.. ولن أعرى وزيرا أو حتى رئيسا للوزراء لأضحك وأستمتع بذلك.. وبدلا من ذلك سأتقدم للحكومة بنصيحة صادقة ومخلصة.. وهى التعاقد مع مكتب متخصص فى العلاقات العامة.. فهذا هو بالتحديد ما ينقص الحكومة فى بلدى وما ينقص بلدى كلها.. مكتب يقول للحكومة كيف تحافظ على صورتها وسيرتها، وتستعيد سلطتها وهيبتها.. ولو كانت الحكومة بالفعل تريد بداية للإصلاح.. فعليها أن تتحول إلى حكومة لها سلطة وهيبة واحترام.. وبإمكان الحكومة أن تنتبه وتلتفت إلى تجربة عمدة نيويورك السابق جوليانى.. ففى نهاية الثمانينيات جلس جوليانى لأول مرة على مقعد عمدة نيويورك.. ولم تكن المدينة الشهيرة اللامعة تعيش أحلى أوقاتها.. فقد كانت عاصمة للخوف وللجريمة وللفساد أيضا.. مدينة بدأت تعتاد على الدم وعلى كسر القانون وعلى جرائم القتل أيضا.. حتى أن الأمريكيين وقتها أطلقوا عليها عاصمة القتل الأمريكية.. وفى هذه الظروف، قرر جوليانى أن ينزل إلى الشارع.. وأن يعيد تنظيم المرور فى المدينة المزدحمة والمضطربة بقبضة من حديد، مستخدما فى ذلك كل ما لدى ولاية نيويورك من قوة وسلاح ورجال أمن ورجال إعلام أيضا.. وبالطبع لاقى جوليانى معارضة هائلة، وسخرية لا أول لها ولا آخر.. فما علاقة المرور بحوادث العنف وجرائم القتل، التى تشهدها المدينة كل يوم.. ولم يتراجع جوليانى أمام كل هذه السخرية، ولم يخش من كل هذه الانتقادات.. فقد كانت لدى الرجل فكرة شديدة البساطة والعمق.. وشرح الرجل فكرته للجميع ولم يخف شيئا.. فقد كان يؤمن باختصار أن الشارع هو المكان الوحيد، الذى يمكن فيه لأى مواطن بسيط أن يشعر بقوة الحكومة وصرامتها، أو يتأكد من ضعفها وعجزها.. الشارع وليس الصحف أو شاشات التليفزيون.. الشارع وليس ساحات المحاكم أو قاعات مراكز الدراسات السياسية والاجتماعية.. الشارع وليس مكاتب موظفى الحكومة والمسئولين الكبار.. وبالفعل.. نزل جوليانى إلى الشارع.. ونزل معه كل المسئولين.. وبدأ أهل نيويورك يشعرون لأول مرة منذ وقت طويل أن هناك سلطة جديدة فى مدينتهم.. ومن ناحيته.. لم يكن جوليانى ورجاله فى الشارع بهدف زيادة دخل مدينة نيويورك من مخالفات السير والانتظار.. ولا من أجل تأمين مواكب الكبار فى غدوهم ورواحهم.. ولا من أجل الاستعراض وانتفاخ أوداج رجال السلطة، حين يصطادوا أحد الضعفاء أو البسطاء أو الفقراء.. وإنما كان الهدف الحقيقى هو الاحساس بالأمان.. والنظام.. وأن من يخطئ سينال العقاب الرادع.. وبدون دخول فى تفاصيل كثيرة ـ وإن كانت ممتعة ـ يمكن التأكيد على نجاح جوليانى فى الهدف الذى سعى إليه.. فقد تغيرت تماما ونهائيا صورة الحياة فى نيويورك.. اختفت الجريمة إلى حد لافت للدهشة والانتباه.. وتقلصت جرائم القتل بمعدلات واضحة، وساد الأمان فى كل الشوارع والنواحى.. وكانت النتيجة أن قضايا كثيرة وشائكة تم حلها، واختفى كثير من مظاهر الفساد التى كانت تئن بها ومنها مدينة نيويورك.
وأنا لم اعد أجد كثيرا من الفوارق بين القاهرة اليوم وبين نيويورك فى نهاية الثمانينيات.. الفساد والخوف والبلطجة وثقافة العنف وجرائم القتل العشوائية وحوادث السطو والسرقة.. وليس من الضرورى.. لكى ننجح فى مواجهة ذلك مثلما نجحت نيويورك.. أن نستورد رجلا مثل جوليانى.. ولكن يكفى جدا أن نأخذ بفكرته ورؤيته وطريقته التى نجحت كثيرا وجدا، فباتت حديث العالم كله وقتها، ومثار إعجابه واحترامه.. ولو كنت المسئول المباشر فى هذا المكتب الخاص بالعلاقات العامة، الذى ستتعاقد معه الحكومة.. كنت سأطلب من الحكومة أن تفتح بعض الملفات وتتعامل معها بمنتهى الحسم والحزم والقوة.. مثل الملف الخاص بسيارات الميكروباص فى القاهرة.. ففى هذا الملف نجد كل أخطاء الحكومة وخطاياها وكل أخطاء الناس وخطاياهم.. ونجد أيضا غفلة الإعلام وتراخيه واستسهاله لقضايا وهموم هذا الوطن.. فالحاجة المتزايدة لهذه السيارات، تعنى أن الحكومة فشلت فى أحد واجباتها الأساسية.. وهو توفير المواصلات العامة وتأمين انتقال الناس.. لكن الحكومة ترفض الاعتراف بذلك.. وتترك الحلول العشوائية تفرض نفسها.. فكان زمن عفاريت الأسفلت أو شياطينه.. ولم تجتمع الحكومة مرة واحدة وتبحث كم سيارة ميكروباص جديدة تدخل الخدمة سنويا فى القاهرة، وكم راكبا يحتاج لهذه الخدمة.. وبالتالى تدرك الحكومة حجم هذا الملف وأبعاده المتكاملة والحقيقية، لتطرح هذه الخدمة فى مناقصة عامة ويصبح هناك من يقدم هذه الخدمة ويربح بالتأكيد، ولكن تحت إشراف الحكومة ورقابتها.. أما الناس العاديون.. فهم فى تعاملهم مع سيارات الميكروباص وسائقيها، لا يشعرون بالأمان ودائما ما يضطرون للتغاضى عن حقوقهم، لأنهم واثقون من غياب الحكومة نهائيا عن ساحة هذا الصراع اليومى المتكرر والدائم.. والمعارضة لم تتخيل يوما أن معاناة الملايين اليومية فى الانتقال إلى بيوتهم أو أعمالهم، ممكن أن تصبح إحدى قضاياها الأساسية.. والإعلام لم يتعامل حتى الآن مع الميكروباص ومواجعه وقضاياه، إلا من باب الطرائف والفولكلور.. وهو ما يعنى أن الالتفات إلى هذا الملف بحزم وجدية.. ممكن أن يخلق صورة جديدة لن تبقى مقصورة على سيارات الميكروباص وسائقيها وراكبيها.. أما الملف الثانى.. فهو الخاص بميدان رمسيس.. إذ لا يمكن تخيل أن حكومة تريد تعمير توشكى.. وتطمح فى مواجهة القرصنة الصومالية وغيرها حفاظا على قناة السويس ودخلها.. وتبنى عشرات المدن الجديدة.. ورغم ذلك تعجز هذه الحكومة عن ضبط الحياة والمرور فى ميدان رمسيس.. وبدلا من الانطباع العام السائد حاليا، والذى تحول فيه ميدان رمسيس إلى تجسيد لفشل الحكومة وعجزها وضعفها أحيانا وغيابها أحيانا أخرى.. يمكن أن يصبح نفس هذا الميدان خطوة أولى، تؤكد بها الحكومة وجودها وحضورها وسطوتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة