لو سألتنى الملائكة يوم الحساب نفسك فى أيه قبل ما تخش النار، سأقول لهم: نفسى أشوف ترزية القوانين المصريين وهم يتقلبون فى مقلاية زيت مغلى على درجة ألف فهرنهايت، بعد أن أحالوا حياة المصريين إلى جحيم يتحدى نار جهنم. تراودنى هذه الأمنية كثيرا كلما هجمت علينا نيران مجلس الشعب الصديقة، لتضع قيدا جديدا حول رقاب المصريين.
منذ تفتحت عيناى على الدنيا لم أعرف قانونا واحدا تم تشريعه، من أجل جعل حياتنا أكثر تنظيما وأقل شقاء، وعندما شاء قدرى أن أعمل بالصحافة، وأصبح لدى قدرة أكبر على الفرز وعلى الفهم أيقنت أن القوانين التى تسن فى كل الدنيا من أجل راحة البشر، تسن فى مصر حتى نعمل عجين الفلاحة ونوم العازب وتمرين تسعة استعد.
مازلت أذكر كلمات الأستاذ عبد الحميد فى طابور الصباح بمدرسة بورسعيد الثانوية العسكرية، قال لنا إن الأمم المصابة بإسهال تشريعى، والتى تصدر كل أسبوع قانونا جديدا هى أمم فشلت فى تنظيم حياة شعوبها بالديمقراطية والعدالة، فلجأت إلى القوانين الزاجرة الظالمة والمقيدة للحريات.
لم يذكر الأستاذ عبد الحميد بالطبع أسماء الأمم التى يقصدها لأنه لم يكن فى حاجة إلى ذلك، فقد كنا من الوعى والإدراك لنعلم أنه لا توجد دولة فى العالم تمتلك هذا الكم الضخم من القوانين إلا بلدنا، فنحن بحمد الله نمتلك ترزية قوانين يستطيعون تفصيل وتأييف أى حاجة على مقاس الأنظمة التى يتعاملون معها، وكثيرا ما جاء ترزية آخرون فى عهد آخر ليمزقوا ما جادت به قرائح من سبقوهم، ليقدموا لباسا ليس له علاقة بلباس التقوى بل بلباس البت بهانة بتاعة فيلم محامى خلع، ( لمن لم يشاهدوا الفيلم، الأخت بهانة لم تكن تعترف بالأندر وير).
وهكذا تمضى حياتنا فى مصر بين إضافة مادة جديدة للقانون رقم عشرين لسنة خمسة وستين، مثلا يعنى، وبين تشريع قانون جديد للأكل وقانون جديد للشرب وقانون جديد لتدخين الشيشة فى المقاهى وقانون لمباشرة الحقوق الزوجية وقانون جديد للتحرش الجنسى وقانون جديد للضرائب العقارية وللضرائب غير العقارية وقانون جديد للفرجة على القنوات الفضائية و.. و.. وكله يسن تحت شعار: مصلحتك أولاً.
تصوروا أننا ندفع ضريبة فى كل خطوة نخطوها من صباحية ربنا وحتى نصل إلى لحظة النوم .. نوم العازب طبعا. لو عاوز تاكل فى مطعم هتدفع ضريبة فوق تمن الأكل مع إن صاحب المطعم دفع ضرائب وهو يشترى بضاعته، أى أن الضريبة تدفع للدولة مرتين وساعات تلاتة مع أن القانون يمنع الازدواج الضريبى، لكن ده كان فى عصور سابقة أقامها ترزية آخرون. لو عاوز تسافر هتدفع، ولو عاوز تدخل السيما هتدفع، ولو عاوز تعمل أى حاجة فى أى وقت هتدفع، ولو عوز تفك حصرة فى دورة مياه عمومية هتدفع .. خلاص زمن فك الحصرة مجانا ذهب إلى غير رجعة.
وكل قوانين الدنيا كوم وقانون المرور الجديد كوم، لم أقابل مواطنا مصريا إلا ويلعن أبو خاش الترزى، الذى فصل هذا الساطور وليس القانون، سواق الميكروباص معترض، وسواق الملاكى من أول الـ "سيات" لغاية الـ "جاكوار" والـ "باسات" معترضون وحتى سواق التاكسى قعد فى بيته، والسؤال هنا: إذا كان الكل رافض فكيف رفع ممثلونا فى البرلمان أيديهم بالموافقة على قانون جائر غبى، يقودنى إلى السجن لمجرد ارتكاب مخالفة قانونية لم يذهب ضحيتها قطة كانت تعبر الشارع؟ كيف سمحوا لأنفسهم بالموافقة على قانون الشنطة التى يجب أن تضم غيارات وأربطة باهظة الثمن تفقد صلاحيتها بعد شهر، وبالتالى يدفع كل صاحب سيارة ثمنها شهريا، بالإضافة إلى ثمن كيس الثلج خمس مرات يوميا؟!
المدهش أن نفس النواب الذين رفعوا أيديهم فى وجه الدكتور فتحى سرور بالموافقة، هم أنفسهم الذين يلعنون القانون ويتهمون واضعه "بالحمورية" دون أن يتنبهوا إلى أنهم هم الذين وضعوه حين وافقوا عليه، بغض النظر عن الترزى الذى صاغه. فكيف هان على من منوط بهم رعاية وتمثيل هذا الشعب، أن يكونوا بهذه الازدواجية وهذا الضعف وهذا الافتراء على الشعب؟
أعلم أن هناك حالة فوضى مرورية فى الشارع المصرى، وأعلم أن السلوكيات غير المنضبطة لبعض الناس، تمثل جزءا من الأزمة المرورية، لكنها مجرد جزء لو تم إصلاح اعوجاجه دون أن يسبقه إصلاح اعوجاجات أخرى لا تقع ضمن مسئولية الناس، فلن ينصلح حال الشارع المصرى حتى لو قطع رجال المرور يد من ينتظر فى الممنوع وقطعوا رقبة من يكسر الإشارة أو من يتكلم فى المحمول أثناء القيادة.
هناك اعوجاجات كثيرة مسئول عنها رجال المرور الذين فشلوا فى تنظيم إشارات المرور، لأنهم يتركونها غالبا فى عهدة مجند درجة ثالثة، أما الرتب الكبيرة فلا تظهر إلا على المحاور التى تمر بها مواكب الوزراء، ثم يختفون بمجرد مرور الموكب، وهناك اعوجاجات كثيرة تقع على كاهل رجال الأحياء الذين تساهلوا فى موضوع الجراجات أسفل العمارات، فلم يجد الناس مكانا يركنون فيه سياراتهم إلا فى الصف الثانى والثالث فأغلقت الشوارع بالضبة والمفتاح. هناك اعوجاج يتحمل مسئوليته من جعلوا الشوارع حفرا ومطبات، ومن أجروا الأرصفة للباعة الجائلين فلم يجد المشاة مكانا يستوعبهم فهبطوا إلى الشارع ليزاحموا السيارات.
الاعوجاج فى من يختارون توقيت سن القوانين التى يترتب عليها أعباء إضافية على ميزانية الأسرة المصرية الفقيرة، فى وقت يعانى منه أغلب الشعب المصرى من غلاء يلهب الظهور.
الاعوجاج فى المسئولين غير المسئولين الذين يروجون لمقولة إن الشعب المصرى مابيجيش إلا بالسك والزجر والعقاب. هؤلاء لا يعرفون أن المصريين يتفننون فى مخالفة وتحدى القوانين الظالمة منذ شرع حمورابى أول قانون فى أرض الرافدين.
أعلم أن قانون المرور إلى جهنم أصبح نافذا ولا سبيل إلى التراجع عن أى مادة من مواده، وأعلم أن الناس سرعان ما سترضخ له مثلما رضخت لكل الطعنات المعيشية التى غرست فى ظهورها منذ ظهور نظيف ومن قبله عبيد على مسرح الحكومة، وأعلم أننى سأشترى المثلث رغم أنفى وحقيبة الإسعاف غصب عن عين أبويا، ولكننى لن أشترى كيس الثلج، وإذا سألنى أمين الشرطة فى الكمين عنه سأقول له: للأسف حصل له نفس اللى حصل لبلدنا: ساحت .. عفوا: ساح
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة