أوجعنى صديقى مجدى الجلاد وهو يروى فى جريدته "المصرى اليوم" قصة الشبان الثلاثة، الذين استوقفوه أمام بيته ليجيب لهم عن سؤال مؤلم: هل ندافع عن مصر إذا احتلت إسرائيل سيناء من جديد؟ وذبحنى الزميل محمد القاضى وهو يسألنى فى برنامجه الصفحة الأخيرة بقناة المحور: هل مازلت تحب مصر؟ إيه الحكاية يا جماعة؟ ما هذا الخلط الغريب، والذى لم نعرفه مثلما لم يعرفه أجدادنا وأجداد أجدادنا؟
رفضت الإجابة عن السؤال أو للدقة رفضت مجرد طرحه، وقلت لمحدثى: الشبان الثلاثة الذين كتب عنهم مجدى الجلاد خلطوا بين مصر التراب.. مصر الحضارة .. مصر الغنية .. مصر الرؤوم، وبين مصر أخرى مربوطة بنظام حاكم ومناخ فاسد وقوانين ظالمة ومستقبل مجهول.
والفرق بين مصر الأولى ومصر الثانية لو تعلمون عظيم، فالأولى خالدة باقية بعظمتها وشموخها أبد، والثانية مرتهنة بأفراد زائلين ومناخ متغير، وبالتالى يمكن أن تستبدل القوانين الظالمة ذات يوم مقبل بقوانين أكثر رحمة، ويمكن أن تستبدل الفساد بالعدالة، فإذا سألتنى مرة أخرى هل تحب مصر الثانية هذه سأقول لك: هات لى واحد بس من المطحونين يقول لك آه بحبها وأنا سأردد بعده: وأنا كمان، لكنك لن تجد من يقول ذلك اللهم إلا الغلابة الذين لم يفرقوا بين مصر الموطن والوطن والبيت والمولد والقبر، وبين مصر الدولة والنظام والحكومة ومجلس الشعب والداخلية ونظيف وبطرس.
الأزمة الحقيقية فى هذا السؤال أنه أصبح مطروحاً بقوة فى الشارع وبنفس الخلط المرفوض، وهذا يؤكد أن البوصلة ضاعت منا جميعاً، وأن المرارة التى تسكن حلوقنا صعدت إلى عقولنا فحالت بينها وبين وضوح الرؤية، بالدرجة التى أوصلت بعضنا إلى رفض الدفاع عن مصر إذا احتلت إسرائيل سيناء من جديد.
ولا يجب أن نتعامل مع هذه القضية باستخفاف ونردد الأغانى والشعارات، بل يجب أن ننبه إلى أن رد الفعل الطبيعى لبقاء النظام الحاكم لفترات طويلة جداً، يخلق لدى الشعب أنواعاً من الربط بأن مصر هى النظام الحاكم .. مصر هى المعاناة والضرائب والغلاء والمرض والزحام والبطالة.. مصر هى الجهلاء الذين يصعدون على القمة ويحتلون أماكن الموهوبين وأصحاب الكفاءات، الذين يعيش بعضهم على الهامش ويعيش بعضهم فى بلاد المهجر، تاركين الوطن نهبا لعباقرة الجهل النشيط.
وهكذا جاء الخلط بين الوطن والنظام، ولا يمكن لمجتهد أن يحل هذا اللغز حتى لو أذيع بيان فى كل المحطات الفضائية، يؤكد أن مصر الحقيقية شىء تانى خالص وأن مصر بتاعتنا فى مشوار وراجعة .. صحيح المشوار طال حبتين بس والله راجعة تاخدنا كلنا بالأحضان، بعد أن تستعيد آلية الفرز الصحيحة ليبقى الأنصاف "جمع نصف" فى المكان المخصص للأنصاف، ويبقى الأرباع فى المكان المخصص للأرباع، فلا يتقدم الصفوف ولا يتبوأ القمم الذين لديهم القدرة على دفع هذا الوطن إلى الأمام ورفعه إلى العلا .
أما مصر الثانية التى لم تعد تملك صوتاً مسموعاً ولا صورة واضحة، مصر التى يتعامل معها بعض الأشقاء على أنها بركة البيت ويتعامل معها أغلبهم على أنها دولة كبيرة فى السن والسكان فقط، متناسين أفضالها عليهم، مصر هذه ستجرى عليها عوامل التعرية عاجلاً أم آجلاً وسوف تختفى حتماً ليحل محلها مصر "اللى راحت مشوار وراجعة" وما علينا إلا الصبر والمزيد من الصبر، لأن نهاية العالم ليست غداً، ولابد أن نهاية هذه المعاناة فرج قادم بإذن الله، وما يبعث على الاطمئنان بقدوم هذا الأمل أن بلدنا غنية جداً بكل الثروات، البشرية والطبيعية لكن المأساة أن الذين يديرونها الآن لا يستغلون هذه الثروات لصالح الشعب، وما يبعث على الثقة بأن مصر الحقيقية راجعة راجعة، هو أن هذا البلد يسرق وينهب منذ سبعة آلاف سنة ومازال أهله يجدون ما يأكلون وما يشربون.
أخيراً كنت أتمنى من صديقى مجدى الجلاد أن يعيد على مسامع الشبان الثلاثة وعلى مسامع كل من يقرأون "المصرى اليوم" تلك الحكمة البالغة، التى جرت على لسان البابا شنودة يوماً: "أن مصر ليست وطناً نعيش فيه.. بل وطن يعيش فينا". هذه الحكمة أرددها كمصرى مسلم، مثلما يرددها كل مصرى قبطى .. نرفض جميعاً السؤال الذى وجهه لى محمد القاضى: لسه بتحب مصر؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة