هل أكون شجاعا حين أسجل اعترافى بأننى فاشل؟ أم تراه سيكون اعترافا ضمنيا بأننى لست فاشلا فقط بل يائسا أيضا.. فما الذى يهمنى أن كنت هذا أو ذاك طالما أننى سأظل فاشلا أمام نفسى فى الحالين؟ فالنجاح مشروع عام يشاركك فيه الكثيرون.. بعضهم مشاركون فعليون وأكثرهم مدعون، أما الفشل فهو مشروع فردى جدا يتبرأ فيه الجميع منك وأولهم أبوك وأمك. ولذلك ما أسهل أن ترجع نجاح الناجح إلى أنه أخذ بأسباب النجاح فنجح، ومن المنطقى أيضا أن تبرر فشل الفاشل بأنه لم يأخذ بأسباب النجاح ففشل.
لكن المسألة فى ظنى ليست بهذه السهولة، ولا يمكن أن نقولها هكذا ونمضى بعدها إلى شأن آخر، المسألة أن أسباب النجاح فى هذا الزمن ليست هى بالتأكيد أسبابه فى زمن مضى، فما كان يرفعك فوق الأكتاف فى الماضى قد يجعلك تحت الأقدام فى هذا الزمن، ولذلك "أوعى تسمع كلام أبوك" لأنك حتما ستفشل مثلى تماما، وإذا كان السيد الوالد من النماذج الناجحة فى الحياة وأورثك مفكرته التى دون فيها أسباب ذلك النجاح، حتى تأخذ بأسبابه لن أقول لك ارميها فى البحر، بل سأنصحك بحفظها عن ظهر قلب، وبعد ذلك أعمل عكسها تماما وساعتها سأضمن لك مكانا بين أهل القمة فى "مصر التى فى خاطرى وفى فمى".
أما إذا كان السيد الوالد راجل طيب من الذين لا يتركون لأبنائهم تذاكر نجاح، أوعى يقول لك عقلك شوف أنيس منصور ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل نجحوا إزاى وأعمل زيهم، لأنك لو عملت كده هيحصلك زى ما حصل لشوقى إسماعيل، وده واحد صاحبى أنت ما تعرفوش، يسكن الآن فى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية ومش ناوى يخرج.
صاحبنا – الله يشفيه – كان شاعرا وقاصا ومثقفا، قرأ ما يقرب من الخمسة آلاف كتاب وعندما قرر العمل بالصحافة، فتحت له الأبواب فكان لا يكتفى بعمل موضوعات تحمل اسمه، بل كان يعيد صياغة موضوعات زملائه فى الجريدة الذين لا يتمتعون بموهبته، وظن صاحبنا أنه سيصبح فى خلال خمس سنوات أهم صحفى فى مصر، وعندما لاحظ أنه لم يتقدم بعد ذلك قيد أنملة، رغم أنه يقرأ كثيرا ويكتب كثيرا ويتابع ما يحدث حوله فى العالم حتى لا تفوته فائته، والأهم من ذلك كان يقتفى فى سلوكيات حياته ما تسبب فى نجاح العظماء الذين يقرأ لهم، وهكذا أقنع نفسه أنه صح الصح وكل ما حوله غلط فى غلط، تغيرت نظرته إلى رؤسائه وإلى زملائه، فكلهم يضطهده ولا يريد له النجاح وكلهم يتربص به حتى يعرقلون انطلاقته، وكلهم يحقد عليه لأنه يكتب أحسن منهم ولأنه فاز بجائزة نقابة الصحفيين مرتين متتاليتين.
ولم يكن شىء من هذا صحيحا، لم يكن هناك عراقيل من رؤسائه ولا مؤامرات من زملائه ولا أحقاد من أحد، كانت مشكلة شوقى الحقيقية تكمن فى عدم إدراكه للمتغيرات من حوله فضلا عن افتقاره للذكاء الاجتماعى، وهذين فقط يوردان أى إنسان التهلكة، لم يدرك زميلنا شوقى – شفاه الله وعافاه – أن العقاد لو ولد من جديد فى زماننا هذا لن يصبح عملاق الأدب العربى بالشهادة الابتدائية التى يحملها والاعتزاز غير الطبيعى بالنفس الذى كان يميزه، ولن يصبح الشيخ طه حسين دكتورا ووزيرا وعميدا للأدب العربى بكبريائه الفظيع ونظرته الدونية للأزهر، مع أن الأزهر على أيامه كان أزهر بجدٍ، وهكذا لن يصبح أحد ممن تمنينا أن نصبح مثلهم شيئا يشار إليه بالبنان، ليس هؤلاء فقط بل إن أحمد زويل ما كان ليفوز بنوبل لو لم يهرب من هذا البلد.
أما شوقى الذى شاء حظه أن تشهد حياته العملية بداية شيوع عصر النجاح بالعلاقات العامة، لم يكن يحرص على بناء شبكة علاقات مع المصادر التى كان يستعين بها فى موضوعاته، كانت علاقته بالمصدر تنتهى بمجرد انتهاء الموضوع، رغم أهمية تلك المصادر سواء وقت تنفيذ التحقيق أو فيما بعد، ووقع فى نفس الخطأ عندما أتيح له العمل كمحرر برلمانى، لم يهتم كثيرا ببناء علاقات مع النواب والوزراء الذين يترددون على مجلس الشعب يوميا، كان يتعامل معهم كمصادر على الواقف، وعندما ترك المجلس لم يسع لهاتفه أحدهم تليفونيا أو يجامله فى مناسبة سعيدة أو حزينة.
رأى شوقى زملاءه الصغار يسبقونه بمراحل رغم عدم امتلاكهم – من وجهة نظره الضيقة – للموهبة فغرق فى موجات اكتئاب جعلته زبونا دائما لعيادات الأطباء النفسيين، ولأنه قرأ عدة كتب فى الطب النفسى لم يقتنع بأطبائه فكان يهرب من أحدهما للآخر، دون أن يستكمل خطة العلاج كاملة عند أحدهم، فكانت الكارثة أن الانتقال من دواء إلى آخر بجرعات مختلفة أتت بنتيجة عكسية فتحول الاكتئاب المزمن إلى وسواس قهرى أجبر أهله على إيداعه إحدى المصحات النفسية، وعندما طالت الإقامة وارتفعت التكاليف اضطروا إلى إيداعه مستشفى العباسية.
والآن لا أحد يزور شوقى إلا أقاربه، وعندما قررت زيارته ذات يوم سعد بى جدا، وتعامل مع الزيارة على أنها هدية السماء إليه. بدت حالته طبيعية جدا لدرجة أننى ظننت أنه اختار الإقامة فى المستشفى كنوع من الهجرة ولكن داخل مصر، ولم أخف هذا الظن على طبيبه الذى جاءه أثناء الزيارة، لكن الطبيب اكتفى بابتسامة فى وجهى ومضى إلى شئونه.
ولأننى أعتقد أن الأطباء فى هذا المستشفى يمارسون دور السجان، أكثر مما يمارسون دور الطبيب تجرأت وقلت لشوقى : يهيأ لى أن القعدة عندكم فى الريف أفضل مليون مرة من هذا السجن. رد على ونظرة لامبالاة تسكن عينيه: معاك حق.. بس خلاص أنا حبيت السجن وبقيت جزءا من مؤسسته لدرجة أنى خايف ليفرجوا عنى ويطلقونى فى الشوارع زى اللى بيناموا تحت كوبرى أكتوبر.
قلت له : بس أنت لسه على قوة الجورنال لأنهم رفضوا استقالتك ومرتبك بيتحول على أهلك كل شهر.
فقال: أنا رافض الفلوس لأنى ماشتغلتش بيها. فقلت له: قانون العمل ينص على تقاضى الأجر كاملا أثناء الإجازة المرضية، والجورنال مستعد يعالجك فى الخارج لو أنت طلبت.
فرد على بتهكم: أنا علاجى مش برة.. علاجى أنى كنت اتولدت فى زمن تانى خمسينيات أربعينيات مفيش مانع تلاتينيات، لكن الوقت ده موش حلو وموش بتاع الناس اللى زيى، تصور الدكتور اللى أنت شفته من شوية بيتهمنى أنى بادلع وأنى موش مريض، لأنه شايف أن كل مشكلتى تنحصر فى حضور كورسات ذكاء اجتماعى، لمدة ثلاثة أشهر يضمن لى بعدها أن أصبح أحد نجوم المجتمع.
قلت له: والله العظيم دكتور محترم وعلى فكرة ده رأى كل الناس اللى بتحبك بس المشكلة أنك مابتحبش نفسك.
رد على مصححا: مفيش حد مبيحبش نفسه، لكن لو حبيت نفسى بطريقتكم هانجح فى شغلى آه، لكن بعدها هاكره نفسى.
قلت له: يعنى وضعك ده موش أقصى درجات الإهانة والكراهية لنفسك.
خرجت من العنبر الذى يقيم فيه شوقى، يسكننى شعور بأننى سأنجح معه بعد ثلاث زيارات، سأحرص على أن تكون متقاربة، لكن المشكلة أن مفيش أماكن فى مصر تنظم كورسات الذكاء الاجتماعى التى نصح بها الطبيب، عموما المهم أنه يخرج من المستشفى وسوف أقنعه بشراء رخصة جريدة من قبرص، ليصبح هو رئيس تحريرها وساعتها سيكتشف بنفسه أنه إذا أراد أن ينجح فعليه إدراك أسباب النجاح طبعة العام الحالى، والمسألة فى غاية السهولة، فقط عليه التنقل بين سرادقات العزاء التى يحضرها المسئولون ورجال الأعمال وإرسال باقات ورد مجفف باهظ الثمن فى المناسبات السعيدة، والتنقل طوال الليل بين البارات والكوفى شوبات والمقاهى، بعدها سيصبح شوقى رئيس تحرير جريدة ناجحة، ونجما فى الفضائيات وضيفا دائما على أندية الروتارى واللوينز. لكن يا ترى شوقى هيفتكرنى بعد ما يدوق طعم النجومية؟ ما يهمنيش.. المهم أنه يخرج الأول من السجن وبعترف أن غلطة عمره أنه سمع كلام أبوه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة