مع حبى وشغفى بالشعر الجاهلى، لم أستسغ حكاية استهلال كل قصيدة بالبكاء على الأطلال، كنت أظن أن البكاء نوع من العجز، وكنت أعتقد أن العجز نوع من الابتلاء، الذى يقتضى أن نستتر بسببه خلف أى جدار أو أى شجرة، لكننا بدلاً من تطبيق المثل الشائع "إذا بليتم فاستتروا" نرفع عقيرتنا بالبكاء والعويل على الأطلال.
وحين كبرت وفهمت وتعلمت، اكتشفت أن البكاء ليس بالضرورة ضعفاً وعجزاً وخيبة وانهياراً، ربما يكون كذلك، مع عاشق كحيان فقران فشل فى الزواج من حبيبته، بعد أن خطفها منه رجل أعمال عنده قصر فى التجمع الخامس وفيلا فى الساحل الشمالى، لكنه فى حالتنا.. أقصد حالة مواطن مصرى غلبان مع حبيبته مصر، لا يكون البكاء أبداً نوعا من الضعف، بل هو بديل مريح ننهى به كل مناقشاتنا على المقاهى والمنتديات، فهل هناك نظرية علمية سياسية اجتماعية تقول إن الشعوب تذرف الدموع حين تفقد القدرة على التغيير؟ لم أقرأ شيئاً من قبل بهذا المعنى، فهل تسمحوا لى بنسب هذه النظرية إلى شخصى المتواضع، وحتى إذا لم تسمحوا، فما الفائدة من التمسك بنظرية سلبية بهذا الشكل الذى يؤكد أن سيكولوجية الشعب المصرى ومزاجه العام تغير تماماً، لدرجة أنه يهيأ لى أحياناً بعد قراءة ليلية لتاريخ مصر أن الشعب الذى أتعامل معه فى الصباح والظهر والعصر والمغرب ليس هو الشعب الذى أقرأ عنه بعد العشاء، وكثيراً ما أسأل نفسى، لماذا كانت وزارة التربية والتعليم تقرر على أيامنا قصيدة أبو القاسم الشابى الشهيرة"إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"؟
هل كان الشابى يقصد الشعوب فى كل أنحاء الأرض أم تراه كان يقصد الشعب التونسى فقط؟، لم يقل لنا أحد من شراح الشعر ما كان يدور بخلد الشاعر التونسى الراحل، لكننا نعرف اليوم أنه لم يكن يقصد الشعب المصرى، أو ربما قصد الشعب المصرى فى ذلك الزمن البعيد، الذى قيلت فيه القصيدة ما أعرفه الآن عن الشعب الذى أنا أحد أفراده، إننا متفرغون للبكاء على الوطن مثلما أفعل أنا الآن، وقد وصلت بنا الحال إلى درجة أننا أصبحنا نحسد موتانا لأن الله أنعم عليهم بالنجاة والراحة مما نحن فيه الآن، وقد ضحكت عندما سألت عن أحد الجيران الذين لم أرهم منذ وقت ليس بعيداً، فقال لى صديقه: ربنا كرمه آخر كرم، فسألته: هل سافر إلى الخليج؟ فقال: أكثر، فسألت: هل توفى أحد أقاربه فى البرازيل وترك له ثروة طائلة؟ فأجاب: الكلام ده مابيحصلش إلا فى السيما.. دى البرازيل أفقر مننا بكتير. أمال حصل له إيه؟ فقال: استراح إلى الأبد.. مات.. شفت كرم من ربنا أكتر من كده؟ عقبالنا يارب.
إنه نوع آخر من البكاء على الأطلال، ولكنه بكاء بجد وليس من أجل الضرورة الشعرية، بكاء جعل لقاء عزرائيل أجمل من لقاء الحبيبة على كورنيش النيل، وأحلى من طعم قبلة خاطفة فى بير السلم أو فى الأسانسير. وحده المريض المتألم والذى لا أمل فى شفائه هو الذى يتمنى الموت، فما بالنا ونحن نتمتع بكامل صحتنا نتمنى مغادرة هذا الوطن، ليس عن طريق المطار والميناء، ولكن عن طريق سيدنا عزرائيل. أفضيت بهذا السؤال إلى صديقى الذى يحسد صديقه الميت، فقال لى ما يوجع وما يمزق وما لم أستطع الرد عليه.. قال: السكوت عما يفعلونه بهذا البلد جريمة، وأنا لا أحب أن أكون مجرمًا سلبيا.. أو شيطانًا أخرس.. أنظر حولك جيدًا وستكتشف أنه لا أمل فى أى إصلاح عارف ليه؟ لأن كلنا كذابين.
بنكذب على بعض وبنكذب على نفسنا، الحكومة تكذب بالليل والنهار وإحنا عارفين كده، واكتسبنا مناعة ضد الأكاذيب لدرجة أننا نستقبل الأكاذيب بالابتسامات. تقدر تقول لى اسم دولة واحدة فى العالم سواء متقدمة أو متخلفة لسه مشغولة بامتحانات الثانوية العامة والتفاضل والتكامل والميكانيكا. هات اسم جورنال واحد فى أى مكان فى الدنيا المانشيت بتاعه كل يوم عن صعوبة امتحانات الثانوية العامة؟ ولو حد موش فاهم أصل الحكاية هيفتكر إن حكومتنا وصحافتها مهتمة بالتعليم وتعتبره على رأس أولوياتها، وبالتالى ينعكس ذلك على مانشيتات الصحف، لكنه عندما يفهم سيعتبر الأمر غلوًا فى الجهل والتخلف وإشغال الناس بسفاسف الأمور. فماذا سيحدث لو نجحت فى الثانوية العامة ودخلت الجامعة وتخرجت؟ ما هو المستقبل الذى ينتظره حملة المؤهلات العليا فى مصر فى ظل بطالة متصاعدة يؤكدها غياب برامج علمية للقضاء عليها، مصر مشغولة حاليا بحديد عز وامتحانات يسرى الجمل وبطولة يورو 2008 عدا ذلك لا شىء، اللهم إلا ركبة محمد أبوتريكة وخيانة عصام الحضرى ومستقبل حسنى عبدربه.
ويمضى صديقى فى بث أوجاعه مضيفًا: كل يوم نفاجأ بارتفاع سعر سلعة ضرورية، لكننا لم نعد نهتز، فقط نكتفى بالشتائم والسباب فى وجه بائع السلعة مع أنه فى الأغلب ضحية مثلنا تمامًا. وما يؤكد أن هذا الشعب أكثر من 70 مليون ضحية هو الطريقة التى تتعامل بها الحكومة مع الحديد والأسمنت، هذا التجاهل والتعالى يؤكد أن هناك مؤامرة على هذا الشعب، وإذا كنت مبالغًا فى استخدام لفظ المؤامرة ماذا تسمى فرض قانون الضرائب العقارية، فى عز أزمة جعلت رئيس الجمهورية يرفع العلاوة إلى 30%؟ كنت أتمنى أن يثبت مجلس الشعب أنه بالفعل يمثل الشعب، ويرفض القانون نهائيًا أو يؤجل مناقشته لحين انقشاع السحابة السوداء من فوق رؤوسنا.
لكن المجلس موجود لكى يؤشر على رغبات الحكومة أكثر مما يعبر عن إرادة الشعب، ولا يمكن أن نطمع فى دور أكثر من ذلك، وأعضاؤه يعلمون أنهم لم يدخلوا المجلس بأصوات انتخابية صحيحة، إنه مثل كل شىء فى بلدنا موجود للديكور، تمامًا مثل المدارس والجامعات، اسمها مدارس وجامعات، لكنها لا تنتج فى النهاية ما تنتجه مدارس أخرى فى دول أخرى وجامعات أخرى فى دول أخرى، وعندنا أيضًا اتحاد كرة ولجنة أوليمبية وفرق وأندية لكنها لا تمارس الرياضة التى تمارس فى اتحادات أخرى، ولجان أخرى وأندية أخرى فى دول أخرى، نحن لدينا كل شىء فى برطمانات بودرة تحمل مذاق البرتقال والخوخ والمانجو والليمون لكنها مجرد بودرة مكسبات طعم لا تحمل من فوائد البرتقال ولا روائح الليمون ولا طزاجة الخوخ ولا عظمة المانجو.
أعلم أن البعض سيتعامل مع هذا المقال ليس كنوع من البكاء على الأطلال، ولكن كنوع من التحريض، وهكذا يؤكد مصيبة هذا الوطن الذى تم تقسيم الناس فيه إلى نوعين فقط.. نوع طيب وراضٍ وساكت وشايف إن كفاية يكون نص الكوباية مليان، ونوع مشاغب رافض ملعون وعينه فارغة لأنه عاوز الكوباية مليانة على الآخر وياريت تكون "مشبَّرة".
لأ.. هناك نوع ثالث ورابع وخامس يتفقون جميعًا على أن هذا البلد منحه الله كل خيرات الدنيا، لكننا - بسوء إدارتنا - وفرناله أعظم لصوص الكون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة