قال لى بأسى جارح: تصدق الشغالين ما قالوا ليش إن الدنيا بطلت تمطر، والشمس طلعت؟
كنت أعرف أنه صادق. فمن الممكن أن يعيش فى المسافة بين غرفته والحمام لأسابيع. والعاملون فى البيت يحضرون، فى صغيرة وكبيرة حتى حافة السرير. والتكييف قديم، لكنه قوى، كفيل بأن يجعله يتجاوز مرتاحاً اضطرابات فصول السنة، فالحرارة ثابتة والأغطية ثابتة لا تتغير صيفاً أو شتاءً. الملابس التى اشتراها من كل عواصم الدنيا الواسعة، كانت ساحة عرضها فى المسافة بين غرفته والصالون العتيق، هذا إذا حدث وأراد استضافة أحد ما حتى يشعر بأنه فى قلب الأحداث، فى قلب العالم، فى قلب الدنيا، ولو نظريا، يشعر أنه موجود.
المرور غير الضرورى على الطباخ والجناينى وباقى العاملين فى القصر لم يكن يشعره إلا بعبء السلطة التى يحبها بالقطع، ولكنه فى ذات الوقت يكره صورته فيها. ربما لذلك يبحث عن جماهير تختار سلطته بكامل إرادتها، وكلما زادوا شعر بسعادة طاغية، سعادة أنه الملك، صحيح أنه جاء بالوراثة، لكنه مُختار من الجماهير.
فهمت أخيرا سخريته المُرة عندما قلت له مبتهجاً، إننى أصبح لى بيت أملكه، وبعد عشرين عاما أصبح لدى غرفة مكتب وضعت فيها مكتب كلاسيكى صغير وقديم، وأن هذا المكتب يتناسب تماما مع اللون البنى المحروق للمكتبة والزجاج الفيميه الذى اخترته بدقة، فهو يكره الثبات الذى يرتاح فيه ويخاف من التمرد عليه، ولكنه فى ذات الوقت يعشق التمرد.. ربما المؤقت.
فهمت أخيرا لماذا امتعض عندما أحضرت له هدية كانت عبارة عن رأس فرعونية، فقصره المنيف والعتيق ملىء بالتماثيل الإغريقية والنقوش الإسلامية وعشرات من التحف. بالإضافة إلى ما تركه له والداه، أغربه بندقية عتيقة كان يستخدمها الأب فى معارك خيالية.
الأهم أننى فهمت، بعد سنوات من الصبر، الجملة التى قالها لى بحزن يحرق القلب: قدرى هو حراسة الأشباح، يقصد أشباح الماضى.
وفهمت أنا بعد سنوات وسنوات أننى أقاتل معه باختيارى، حتى تكون لى أشباحى التى أحرسها.. وفى الحقيقة حتى يكون هو شبحى الذى أحبه وأحرسه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة