عبث لا أكثر .. سيعتبره أى قارئ؛ الحديث عن ما تعانيه امرأة تعمل فى مجتمع ينتقص بالأساس من حقوقها الأساسية، سيعتبره القارئ العادى عبثاً، لأن فى نظر مجموع الشعب المصرى: أن المرأة قد "أخدت حقها وزيادة"! حينها يصبح تناول أى معاناة لامرأة، تماماً كالدخول فى حقل ألغام.
"أدركت مبكراً أن كونى امرأة سيجعلنى أدفع الثمن مضاعفاً؛ كى أحقق نصف ما يحققه أى رجل!" هكذا قالت الروائية اللاتينية الأكثر شهرة إيزابيل الليندى، فى معرض حوراها مع اليوم السابع، وهى جملة استهلت بها الحديث عن رحلة بحثها عن ذاتها، وإثباتها لهذه الذات فى عالم يحكمه الرجال.
ولأن النساء اللاتى يخرجن للعمل هن كثيرات للغاية، ويتزايدن يوماً بعد الآخر، تحت وطأة الضغوط الاقتصادية المتزايدة، وتراجع دور الرجل فى مجتمع أصبحت العشوائية واقعاً متزايداً فيه، وهى لمن لا يعرف مساحة من "اللاقانون" و"اللامسئولية"، لا يكون تخلى الرجل فيه عن مسئولياته سلوكاً يدفع للخجل؛ فإن الرائى من بعيد يتصور أن هؤلاء النساء متساويات مع الرجال، لما لا؟، فهن يعملن مثلهم، ويحصلن على الأجور نفسها، وهنا تتجلى "الخديعة الكبرى".
فى الغرب، حيث سبقت النساء للخروج إلى العمل، حدث ما فاجأ المؤسسات الكبرى، حيث لوحظ ترك نسبة من النساء للعمل فى وقت مبكر من أعمارهن، لم يكن هذا ما أشعر المؤسسات بالقلق؛ وإنما أن هؤلاء النساء هن الأكثر تميزاً "الحاصلات على الدرجات العلمية الأعلى، اللاتى وصلن إلى مراكز إدارية مرموقة، واللاتى يحصلن على المرتبات الأعلى وينتظرهن مستقبل مضمون!".
ولأن مؤسسات الغرب لا تكتفى بالدهشة؛ أدارت عجلة إداراتها البحثية، لأن بفقدان هذه النوعية من النساء تخسر المؤسسات قوة عمل متميزة نوعياً، وجاءت النتيجة بأن هؤلاء النساء تركن العمل لصالح أن يكن أمهات، ليس لأن طموحهن المهنى قد توقف عند هذا الحد، ولكن لأن الاندماج فى سباق التميز المهنى حرمهن من أن يكن أمهات، لأن الأمومة تحتاج لطاقة وتفرغ، والصعود المهنى لا يعترف بهذا، ولأن هؤلاء النساء على درجة عالية من الثقافة والعلم، فهن قادرات تماماً على تحديد احتياجاتهن، ويمتلكن الجرأة للقيام بالاختيار؛ ليس هذا فحسب، ولكن لأن العمل فى الغرب يعطى نتائج مادية متساوية مع الجهد، فهذه النوعية من النساء، تكون فى منتصف عمرها قد حققت تراكماً مادياً يسمح لها بالتوقف عن العمل .. ولو لبعض الوقت.
أرادت المؤسسات الاحتفاظ بهؤلاء النساء، وأعلنت بعضها السماح لهن بالعمل لبعض الوقت، البعض وافق والأغلب رفضن؛ لأن هذا النوع من العمل يضمن التواجد فى المؤسسة، لا الصعود فيها، وهو ما لا يرضى طموح هذه الفئة. الخطوة التالية هو أن كل مؤسسة وكل بلد، بدأ فى دراسة احتياجات هؤلاء النساء، اللاتى قمن دون قصد، بخلق مرحلة جديدة فى تاريخ عمل المرأة (لا نعرفها بعد فى منطقتنا)، وحصلت النساء على حقوق تتيح لهن ممارسة أدوارهن كأمهات، دون التخلى عن أحلامهن المهنية، وكل ما فعلته المؤسسات هو بعض الجهد فى الدراسة والبحث وتغيير لقواعد ولوائح العمل، للفوز بجهود فئة قادرة على العطاء وترغب فيه، كل العائق الذى يعترضها هو كونها "أنثى"!
كون العامل "أنثى" لم يعد تماماً تهمة فى الغرب، ليس لأن أخلاق الغرب أكثر تحضراً، ولكن رغبة المؤسسات فى المكسب، تجعلها تسخر كل الطاقات الممكنة للحصول عليه، لكن للأسف لا تزال هذه تهمة فى مجتمعاتنا النامية، التى لن تنمو سوى بالاستغلال الأمثل لقوة عمل المرأة، وتسخير الظروف المناسبة لكى تلعب أدوارها كأم وزوجة وعاملة بنجاح، دون أن يؤثر دور على آخر بالسلب، ببساطة .. لأنها تلعب كل هذه الأدوار لخدمة المجتمع، وليس غريباً ولا مصادفة، اتجاه أغلب الشابات للجلوس فى المنزل والرغبة فى أن يكن ربات بيوت لا أكثر، لأنهن قد رأين معاناة جيل الأمهات، ولأنهن يعرفن أن سقف طموحهن المهنى سيكون منخفضاً لأنه سينتهى بالزواج والأمومة، إما هذا أو الحرمان من الحصول على حياة طبيعية بالزواج والإنجاب، وهو ما لن يرحمهن المجتمع إذا لم يحدث.
لأن ما يحدث فى مصر الآن من صعود لمؤسسات جديدة؛ يستتبع بالضرورة قواعد عمل مختلفة تقوم على "رؤى" أكثر عصرية وإنسانية وعلمية، فإن الاحتفاظ بالمرأة ككيان منتج خارج المنزل، يحتاج إلى إعادة نظر فى الفلسفة التى تحكم التعامل معها كـ"إنسان عامل"، سواء بتوفير ما يعينها على رعاية الأبناء أثناء تواجدها فى العمل، أو بخلق وظائف تتسم بالمرونة من حيث الوقت أو كيفية الأداء، وبتسييد ثقافة العمل لبعض الوقت، أو من المنزل، هذا كله ممكن ببعض الترتيب والتنظيم، لأن البديل غير قابل لذلك وهو أن تكون امرأة: أم لبعض الوقت!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة