بات اسم إدغار كايس يشكل علامة مثيرة في التاريخ المعاصر، وبخاصة في ظل تناوله أحداثاً مثيرة كانت غائبة وربما غائمة عن الأعين في الماضي، عطفاً على أحداث أكثر إثارة عن المستقبل، وقد يكون الأخير هو ما يشغل الأميركيين على نحو خاص لارتباطه بأحداث وتطورات سياسية واقتصادية، اجتماعية وثقافية، في هذه الأيام التي تمر فيها الولايات المتحدة بتغيرات ذهنية وفكرية تدعو لرصدها والاهتمام بتفسيرها، إنه أكثر المتنبئين إدهاشاً في القرن العشرين، وظاهرة لا تزال لغزاً للجميع حتى بعد وفاته بنحو ثمانية عقود.
إدجار كايس
في ربيع عام 1877، وُلد إدجار كايس في Hopkinsville، ولاية كنتاكي، وسط عائلة ريفية متواضعة تعتمد على الزراعة، لم يتلق الطفل تعليماً أكاديمياً متقدماً، لكنه غرق مبكراً في النصوص الدينية، حتى أن بعض المؤرخين يذكرون أنه ختم الكتاب المقدس أكثر من خمسين مرة قبل بلوغ العشرين.
منذ طفولته، كان يتحدث عن "أصدقاء غير مرئيين" ويزعم أنه يرى كائنات لا يراها سواه، في بيئة متدينة صارمة، لم يُتهم بالجنون بل اعتُبر "مباركاً" بطريقة ما.
ادجار كايس
التعليم المحدود والخيال الجامح
أنهى كايس المدرسة الابتدائية فقط، ولم يتفوق في أي من العلوم الطبيعية أو الرياضيات، لكنه كان قارئاً شغوفاً بالقصص الإنجيلية، وكان يهوى الجلوس في عزلة مع كتابه المقدس، هذا الفارق بين التعليم المحدود والخيال الروحي المفتوح جعله، بحسب باحثين، أرضاً خصبة لتأثيرات تيارات الروحانية والتنويم المغناطيسي التي كانت تنتشر في أمريكا أواخر القرن التاسع عشر.

إدجار كايس
مرض غيّر حياته
في بداية شبابه، أصيب كايس بمرض غامض أفقده القدرة على الكلام لعدة أشهر. الأطباء عجزوا عن تشخيص حالته، لجأ إلى التنويم المغناطيسي كتجربة أخيرة، وما إن دخل في تلك الحالة حتى تحدث بصوت واضح، ليس فقط عن مرضه، بل عن العلاج الذي يحتاجه، بعد اتباع التعليمات، تعافى صوته فعلاً، هنا اكتشف إدغار ما سيعرف لاحقاً بـ "القدرة": الدخول في غيبوبة شبيهة بالنوم والإجابة عن أسئلة في الطب، التاريخ، وحتى المستقبل.

أحد الكتب عن إدجار كايس
هذه اللحظة وُصفت بأنها "البوابة التي عبر منها كايس"، حيث تحوّل من شاب عادي إلى ظاهرة، بدأ بعدها يقدم "قراءات" في حالة النوم العميق، يشخص فيها الأمراض، ويصف علاجات، ويجيب عن أسئلة في التاريخ والمستقبل.
ولادة أسطورة "النبي النائم"
خلال العقود التالية، ألقى كايس أكثر من 14 ألف قراءة، ما زال معظمها محفوظاً في أرشيف Association for Research and Enlightenment (A.R.E.) بفرجينيا بيتش (ARE Archives, Virginia Beach).
توزعت قراءاته على:
الطب والعلاج: وصف علاجات عشبية ونظم غذائية ما زالت بعض العيادات البديلة تعتمدها.
النبوءات: تحدث عن الحربين العالميتين، وعن انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، وتغيرات مناخية حادة.
الباطنيات: أكد وجود حضارة أطلانتس، وتحدث عن التناسخ والكارما.
شخصية مزدوجة
في حياته اليومية، كان كايس رجلاً بسيطاً، متديناً، يعمل في متجر للتصوير الفوتوغرافي، لكنه في جلساته بدا وسيطاً لعالم آخر، يتحدث بلغة علمية لم يدرسها، ويطرح أفكاراً لا يعرفها، هذه الازدواجية جعلته يبدو في نظر معاصريه "أداة بين عالمين" .
النبوءات الكبرى.. بين التحقق والفشل
1- الاقتصاد والأزمات
تحقق: أشار كايس فى عشرينيات القرن الماضي إلى أزمة مالية عالمية وانهيارات اقتصادية، ربطها البعض مباشرة بالكساد الكبير عام 1929.
فشل أو غموض: تحدث أيضًا عن "نهضة اقتصادية روحية" تقودها الولايات المتحدة بحلول القرن 21، وهو ما لم يظهر بصورة مؤكدة.
2- التغير المناخي
تحقق جزئيًا: من أبرز قراءاته تنبؤه بـ ذوبان الجليد فى القطبين وارتفاع مستوى المحيطات، وهو أمر يتطابق مع ما يرصد اليوم من آثار الاحتباس الحراري.
3- الحروب والتحالفات
تحقق جزئيًا: ذكر أن "أزمات كبرى ستبدأ من الشرق الأوسط وتشعل صراعات عالمية"، وهو ما يرى البعض أنه انعكس فى حروب المنطقة وغزو العراق، وأخيرًا الصراع بين الشرق والغرب.
فشل: لم تتحقق بعض توقعاته بشأن اندلاع حرب عالمية ثالثة مدمرة فى القرن العشرين.
4- أطلانتس والحضارات المفقودة
فشل أو أسطورة: أكد كايس أن قارة "أطلانتس" المفقودة ستظهر آثارها بين عامي 1968 و1969 بالقرب من جزر الباهاما، ورغم العثور على بعض تشكيلات صخرية غامضة تحت الماء، لم تُثبت الأبحاث العلمية وجود أطلانتس.
سر "غرفة الأسرار" تحت أبو الهول
من أكثر النبوءات إثارة للجدل كانت إشارته إلى وجود غرفة سرية تحت تمثال أبو الهول في الجيزة، تحوي "سجلات حضارة أطلانتس" وكتبًا تكشف أسرار البشرية.
الوضع العلمي: حتى الآن لم يُثبت أي دليل أثري وجود هذه الغرفة، بعثات استكشاف عديدة استخدمت الرادار والمسح الجوفي ولم تعلن عن اكتشاف مؤكد.
التأثير الإعلامي: هذه النبوءة غذّت روايات غامضة وأعمالًا وثائقية وخيالية ربطت بين مصر القديمة وأطلانتس.
استغلاله من جهات متعددة
1. الجمعيات الروحية والباطنية
أمريكا في مطلع القرن العشرين شهدت موجة كبيرة من الحركات الروحية مثل الثيوصوفية (Theosophy) و"الروحانية" (Spiritualism).
هذه الجماعات كانت تبحث عن شخصيات "موحى إليها" لتثبيت أفكارها عن التناسخ، الكارما، وأطلانتس.
بالفعل، كثير من قراءات كايس حول "حضارة أطلانتس" و"الحياة السابقة" انسجمت مع أطروحات الثيوصوفيين.
يُرجَّح أنهم دعموه وروّجوا لكتاباته لأنه كان يعزز سرديتهم.
2. الكنائس الإنجيلية
رغم أنه أدخل أفكاراً "غريبة" على المسيحية التقليدية (زي التناسخ)، لكنه ظل يكرر أن كل شيء يجب أن يُفهم في ضوء الكتاب المقدس.
بعض الكنائس البروتستانتية حاولت استخدامه كـ "دليل على استمرار عمل الروح القدس" أو على وجود مواهب خارقة في عصر العلم، لكن آخرين رفضوه بشدة واعتبروه مهرطق.
3. الدوائر الاقتصادية والطبية
كثير من مرضى كايس كانوا من الأثرياء أو من يبحثون عن علاجات بديلة.
القراءات الطبية التي كان يقدمها أصبحت أساساً لإنشاء مستشفى ومعهد أبحاث في فرجينيا بيتش (Association for Research and Enlightenment – A.R.E.).
هذه المؤسسة ما زالت قائمة حتى اليوم، وتستفيد مادياً وروحياً من إرثه.
4. التيارات القومية والاستخباراتية
بعض الباحثين يشيرون إلى أن قراءات كايس في الثلاثينيات والأربعينيات تضمنت "نبوءات سياسية" حول الحروب العالمية وصعود الشيوعية.
هذه القراءات جذبت اهتماماً من سياسيين وضباط استخبارات أمريكيين، خاصة أن فترة الحرب الباردة كانت مليئة بمحاولات استغلال الظواهر الخارقة في التجسس النفسي (Psychic Intelligence).
هناك فرضيات تقول إن المخابرات الأمريكية (ثم لاحقاً CIA) كانت تتابع مثل هذه الشخصيات ضمن برامج بحثية عن "القدرات الخارقة" (زي مشروع Stargate في السبعينيات).
5. الإعلام وصناعة الأساطير
الصحف والمجلات الأمريكية ضخمت شخصية كايس وقدراته، مما جعله "ماركة" مربحة.
شركات نشر وكتّاب سيرة ذاتية بنوا ثروات من إعادة طباعة "قراءات كايس" أو الترويج لكتبه حول غرفة الأسرار تحت أبو الهول أو نبوءاته عن الكوارث.
هنا يظهر بوضوح كيف تحولت شخصيته إلى "منتج ثقافي" يغذي صناعة الأساطير الشعبية.
الإرهاق والنهاية
بحلول عام 1944، كان كايس يجري عشر قراءات يومياً أحيانا، الإرهاق أودى بصحته، فأصيب بجلطة دماغية وتوفي في 3 يناير 1945، عن عمر 67 عاما.
إرث باقٍ.. بين العلم والخرافة
أُسست بعد وفاته منظمة A.R.E (جمعية البحوث والتنوير) فى فيرجينيا بيتش، وتحتفظ بآلاف قراءاته التي تُدرس حتى اليوم فى دوائر الطب البديل والروحانيات.
مؤيدوه يرونه سابق عصره، بينما يعتبره نقاده مجرد قارئ جيد لروح عصره، نسج توقعات فضفاضة تتيح تأويلات مختلفة.