عرفات.. الأرض التي تجمع في يومها الأعظم قلوبًا من كل فجّ عميق، أتت تلبيةً لنداء واحد منذ آلاف السنين، في التاسع من ذي الحجة، يكتمل المشهد الإيماني في موسم الحج، حين يقف الحجاج على جبل عرفات في لحظة روحانية نادرة، تتجلى فيها كل معاني الخضوع والرجاء. إنها ساعات قليلة تختزل رحلة روحية عمرها قد يمتد لسنوات، فتغدو الدموع لغة مشتركة، والدعاء زادًا، والتكبير ترديدًا موحدًا يملأ السماء.
منذ ساعات الصباح الأولى، تدفقت أفواج الحجاج نحو عرفات، ملبين متضرعين. بدت الأرض كأنها بساط أبيض من كثرة الإحرامات، وكل حاج يحمل على وجهه مزيجًا من الرجاء والرهبة، يتقدّم بخطوات خاشعة نحو الرحمة والمغفرة.
لم يكن المشهد عادياً، فكل زاوية تحمل قصة، وكل دمعة تحكي مشواراً طويلاً من الشوق والمثابرة للوصول إلى هذا اليوم.
على صعيد عرفات، لا وجود لحدود أو جنسيات، يذوب الجميع في بوتقة واحدة، متجردين من كل ما هو دنيوي، يستشعرون عظمة الموقف وجلال اللحظة.
الحجاج يرفعون أكفهم إلى السماء، في لوحة إنسانية تعكس جوهر الحج كركن جامع يوحد المسلمين حول العالم.
في إحدى الزوايا القريبة من جبل الرحمة، جلست حاجة سبعينية، تمسك بمصحف صغير اهترأت صفحاته من كثرة الاستخدام، وعيناها تغرقان في دموع لم تنقطع منذ ساعات. كانت تردد الأدعية بصوت خافت، وعندما سألناها عن شعورها، قالت: "انتظرت أربعين عاماً لأصل إلى هنا، واليوم أشعر أني وُلدت من جديد". كلماتها كانت كافية لتلخص قيمة هذا اليوم وقدسيته في نفوس المسلمين.
وعلى الجانب الآخر، وقف شاب يبلغ من العمر 25 عاماً، يوزع المياه والتمور على الحجاج تحت شمس حارقة، وجهه يشعّ بالرضا. عندما سُئل عن دوافعه، قال: "ما أقوم به لا يُقارن بما يقوم به هؤلاء الذين قطعوا آلاف الكيلومترات للوقوف هنا، خدمتهم شرف لي".
الأجواء في عرفات لا تقتصر على المشاعر الدينية فحسب، بل تسودها أيضًا مشاهد إنسانية مؤثرة.
أحد الأطباء المشاركين في بعثة الإغاثة الطبية أشار إلى أنهم عالجوا عشرات الحالات من كبار السن الذين أصروا على أداء المناسك رغم ظروفهم الصحية. وقال: "ما نراه هنا هو إيمان لا يتزعزع، وقوة إرادة تذيب كل عوائق الجسد".
تتوالى التكبيرات والدعوات من كل حدب وصوب، ويشتد الزحام قرب جبل الرحمة، حيث يتسابق الحجاج للوصول إلى قمته أو حتى التبرك بالقرب منه. وبينما ترتفع الأكف وتتوسل القلوب، تعلو أصوات المآذن بنداء الحق، معلنة أن الأرض قد امتلأت بالمتعبدين.
وعندما تدنو الشمس من المغيب، تنقلب عرفات إلى واحة من التضرع الجماعي، إذ يبدأ الحجاج في لحظة الوقفة الكبرى، حيث تتضاعف المشاعر وتتكثف الدعوات. هي لحظات لا توصف بالكلمات، بل تعاش بالقلب والعين والروح، حتى أن البعض يختار العزلة التامة عن كل شيء ليتفرغ للذكر والدعاء، وكأنه في خلوة سماوية.
وفي ختام هذا اليوم العظيم، ومع غروب الشمس، يبدأ الحجاج بالنفير إلى مزدلفة، لكن القلوب تبقى معلقة بعرفات. كثيرون يلتفتون بنظرات الوداع، يدركون أن هذه اللحظات لن تتكرر بسهولة، وربما لا تتكرر أبدًا. يقول أحد الحجاج من اليمن: "لو خُيّرت بين كنوز الدنيا وهذه اللحظة، لاخترت عرفة دون تردد".
هكذا، يطوي يوم عرفة صفحته وقد نقشت في القلوب معاني عظيمة، وعاد الحجاج محمّلين بأمل الغفران، يدركون أن ما بين السماء والأرض كان اليوم أقرب مما يكون. عرفة ليست مجرد مكان، بل زمن خاص تُفتح فيه أبواب الرحمة، ويُكتب فيه التاريخ الإنساني والروحي لكل من وقف عليه خاشعًا.
.jpg)
الحجاج على جبل عرفات (1)
.jpg)
الحجاج على جبل عرفات (2)
.jpg)
الحجاج على جبل عرفات (3)
.jpg)
الحجاج على جبل عرفات (4)