أحمد إبراهيم الشريف: يا حبيبا زرت يوما أيكه
ذات ليلة بعيدة، عندما كنت أعيش فى الصعيد فى قرية صغيرة ينام ناسها قبل التاسعة مساء، يستعدون ليوم طويل من العمل يبدأونه بصلاة الفجر ثم يواصلون عملًا لا ينتهى، لذا فإن صلاة العشاء آخر عهدهم بالسهر، وهذه الحياة لا تناسب شابًا صغيرًا يستعد للذهاب إلى الجامعة، ويعرف أن السهر سيكون من مكتسبات الحياة الجديدة، لذا بينما يهجع الجميع، كنت أظل جالسًا أمام البيت يحيط بى ظلام شفيف وسكون لا يقطعه سوى صوت «وابور» يمر فى النيل ثم يختفى، وطائر «كروان» يلقى التحية كل حين، ويكمل طريقه فى السماء بحثا عن ساهرين آخرين، وبعدها يحل سكون طويل يقترب من حافة الملل.. وفجأة تغير كل شىء.
انقطع السكون وحملت الرياح صوت كوكب الشرق تغنى «يا حبيبًا زرت يوما أيكه» ظهر الصوت فجأة كأنه هبط من السماء أو نبت من الأرض، كان الصوت يقترب ويبتعد، حسب رغبة الرياح التى كانت تنتشى بصوت «الست»، أنا حائر مأخوذ بما أسمع لكننى لا أعرف من أين يأتى الصوت؟ ولا أعرف أين هو ذلك الراديو الذى يبث الأطلال ويتعطر بهذا الفن؟ ولم أفكر فى ذلك الساهر مثلى الذى أرسل لى هذه الهدية، سحرنى الصوت الذى يواصل اقترابه وابتعاده وقلبى معه، كنت أخشى أن تصمت الست أو تخوننى الرياح فتذهب بالصوت بعيدًا، وانتابنى شعور غريب بالرغبة فى سماع هذا الصوت إلى الأبد.. هل بكيت فى تلك الليلة؟ لا أعرف، لكننى الآن كلما تذكرت هذه الليلة «المقدسة» ابتلت عيناى بالدمع.
إنها أم كلثوم، غير القابلة للاختصار، المعجزة الأبدية فى عالم الفن، التى مهما حاولنا تحليل فنها أو نجاحها أو حياتها لا نستطيع أن نلم بها تمامًا، بل نقدم محاولات، ومن هذه المحاولات، هذا الملف عن «سر العظمة» نطرح أسئلة، لماذا كل هذا التأثير الذى تملكه كوكب الشرق؟ كيف اكتملت عندها الأشياء؟ كيف حولت الصعب لسهل، والعادى لجميل؟ وكيف ظلت رغم رحيلها منذ 50 عاما بالتمام والكمال يسمعها الناس ويتأثرون بها، وكأنها تغنى لهم وحدهم؟
أحمد أبواليزيد: 700 أغنية فى مقهى ببغداد!
أتذكر فى 2001، أى قبل 24 عاما، أن زميلى المصور الصحفى الشهير حسن عبدالفتاح حكى لى بل وكتب عن رحلته إلى العراق قبل الغزو الأمريكى، وبالتحديد عن مقهى السيدة أم كلثوم هناك لصاحبها «عبدالمعين الموصللى»، كان هناك فى بغداد عاصمة الرشيد وبالتحديد فى حى المربعة، وهو حى يتجمع فيه أغلبية المصريين، الذين يعملون فى العراق مع أشقائهم من أبناء الشعب العراقى، هناك وأنت تسير فى هذا الشارع تجد صوت سيدة الغناء العربى أم كلثوم يجلجل بأحلى الأغانى، كما تجد صورتها وهى تشدو وتمسك بالمنديل الشهير، وهى تتصدر مقهى أم كلثوم فى بغداد، أشهر مقهى فى العراق وقتها، وجميع الذين يأتون لسماع صوت سيدة الغناء العربى، خاصة الأغانى النادرة التى غنتها فى بداية مشوارها الفنى.
صاحب هذا المقهى الذى ينبعث منه صوت أم كلثوم، كما ذكرنا، هو الحاج «عبدالمعين الموصللى»، وقد تم افتتاحه فى بغداد عام 1964 أى منذ 61 عاما، والمقهى وقتها كان كما هو منذ هذا التاريخ، ولا أعلم حقيقة وضعه حاليا بعد الغزو الأمريكى، وتكاد صور أم كلثوم وهى أكثر من خمسمائة صورة تزين كل مكان، وتغطى جدران المقهى، وكان يعمل بالمقهى وقتها رجل اسمه «أبوالعباس السماوى» وكان عمره 91 عاما، كل متعته فى الحياة هو سماع صوت أم كلثوم فقط أثناء العمل.
يتذكر «أبوالعباس» أن أم كلثوم حضرت عام 1964 لتغنى فى المقهى ومنذ هذه اللحظة صار مقهى أم كلثوم يحمل اسمها تكريما لها، ومنذ هذه اللحظة قرر صاحبه «عبدالمعين» أن يقتنى جميع أغانى هذه الفنانة التى أصبحت رمزا لكل العرب.
سافر «عبدالمعين» إلى القاهرة من أجل مهمة واحدة فقط هى الحصول على جميع أغانى أم كلثوم منذ بدايتها، وحتى الأغانى التى كانت تغنيها منذ أن كان عمرها عشر سنوات، واستغرقت هذه الرحلة ثلاث سنوات فى شوارع وأزقة وحوارى القاهرة، وعاد الحاج عبدالمعين إلى بغداد وهو يحمل كنزا لأم كلثوم، نشك كثيرا أنه موجود عند أسرة أم كلثوم نفسها، وهذا الكنز يتكون من 700 أغنية «ماستر» على الشرائط والأسطوانات الأصلية وهى مجمل أغانى أم كلثوم فى خمسين عاما.
وقتها سأل الزميل حسن عبدالفتاح صاحب المقهى: هل تبيع هذه الأغانى؟ فقال: «ولا كنوز الدنيا تعوضنى عن هذا التراث العظيم لست الكل ثومة، التى أمتعتنا وما زلنا نستمتع بصوتها حتى الآن».
يكمل الحاج عبدالمعين حديثه قائلا: أنا أملك مقهى آخر بالموصل وعمر هذا المقهى 75 عاما، أى أن عمره حاليا 99 عاما، وأيضا أغانى أم كلثوم تذاع هناك طول الوقت.
ويضيف الحاج عبدالمعين، أنه لاحظ بعد عرض مسلسل أم كلثوم، وكان قد مر وقتها سنة واحدة على عرض المسلسل فى التليفزيون العراقى، أن جيل الشباب بدأ يأتى بكثرة للتردد على المقهى يوميا لسماع صوت أم كلثوم بعد أن كان المقهى لا يلتقى فيه إلا عشاق أم كلثوم فقط، ممن هم فوق الخمسين والستين عاما، ولكن بعد المسلسل تفوق جيل الشباب على جيل الكبار وصاروا هم الأغلبية.
تتوسط المقهى تلك القصيد الخالدة التى كتبها الشاعر الراحل أحمد رامى ليرثى بها أم كلثوم عند وفاتها.. يقول مطلعها:
ما جال فى خاطرى أنى سأرثيها
بعد الذى صغت من أشجى مغانيها
قد كنت أسمعها تشدو فتطربنى
واليوم أسمعنى أبكى وأبكيها
ويوجد أيضا خطاب للسيدة أم كلثوم كتبته بخط يدها إلى صديقتها الشاعرة والأديبة العراقية «وديعة جعفر الشبيبى»، وقد كتبت أم كلثوم هذا الخطاب فى 19 يوليو عام 1946 وقالت لها فى سطوره: كان من بين المحاسن التى نعمت بها فى رحلتى الأخيرة إلى القطر الشقيق العراق تلك الفرصة الطيبة، التى شرفت فيها بلقائك والتعرف إلى شخصيتك الممتازة، فقد أسعدنى حقا أن ألقى أختا من العروبة تتحلى بأدبك وتقرب من مضمار الشعر وتسمو فيه سموك الممتاز، أما قصيدتك العصماء التى حييتينى بها، فهى درة نفيسة حقا، وإنى إذ أقدم لك وافر الشكر أرجو أن أعبر لك عن إعجابى الشديد بك وبشعرك وأدبك وأرجو أن تقبلى منى هذه الصور الفوتوغرافية لى، عنوانا للشعور الذى أحمله لك، وتقبلى وافر تحياتى وأطيب تمنياتى «المخلصة أم كلثوم».
وهذا الخطاب الموضوع داخل إطار فى صدر المقهى، نجد حوله بروازا آخر يحمل جدولا لأغانى أم كلثوم، من الذى لحن الأغنية، ومن المؤلف الذى كتب كلماتها وما هى السنة التى غنت فيها أم كلثوم الأغنية، وذلك بالإضافة إلى صورنادرة لأم كلثوم منذ أن كان عمرها ست سنوات حتى لحظة وفاتها.
يؤكد الحاج عبدالمعين أن أغلب رواد المقهى من المعجبين بأم كلثوم هم الذين يهدون له الصور النادرة لها، ثم يضيف فيقول: إن هذا المقهى شهد حفل زفاف منذ عشرين عاما أى فى 1981 لعروسين أصرا على أن يقام حفل زفافهما هنا فى هذا المقهى، وظلا طوال الليل يسمعان أغانى أم كلثوم، وقال العريس: إن هذه القهوة شهدت بداية تعارفنا وجمعتنا أغانى أم كلثوم وتحابينا من خلالها، ولذلك قررنا إقامة ليلة زفافنا فى المكان الذى نحبه ونعشقه وشهد مولد حبنا.
أكتفى بهذه القصة التى تظهر مدى صدق معانى كلمات هذه السيدة العظيمة، التى عاشت وتعيش فى قلوبنا، ويا ست الكل «بعيد عنك حياتنا عذاب».
محمود ترك: كوكب الشرق.. الغلاف الذى يزين تاريخ الأغنية العربية
لا يمكن النظر إلى السياق التاريخى للموسيقى والأغنية العربية بمعزل عن صوت أم كلثوم، وتأثيره فى وجدان المواطن العربى، ذلك التأثير الذى شعر به للمرة الأولى الشاعر أحمد رامى، عندما استمع إليها عام 1942، حيث كانت تغنى مرتدية العقال والبالطو فى مسرح حديقة الأزبكية.
«الصــب تفضحه عيونه وتنم عن وجد شؤونه».. كلمات من قصيدة رامى التى كانت تتغنى بها أم كلثوم على المسرح فى أول لقاء بينهما، إذ سمعها الشاعر صاحب البصمة المميزة فى تاريخ الأغنية أيضا، وأدرك وقتها أنه أمام صوت لا يتكرر كثيرا، وكان إحساسه صادقا.
الشاعر الذى تعاون مع كوكب الشرق لاحقا فى العديد من القصائد وتوجت بأغنية «انت عمرى»، لم يكن وحده الذى وقع أسيرا لصوت أم كلثوم، بل امتد سياج ذلك السحر الأخاذ إلى الوطن العربى بأكلمه، لتصبح ظاهرة فنية وثقافية لا يُقلب أحد صفحات تاريخ الغناء والموسيقى العربية دون أن يتوقف كثيرا، حيث وضعت اسمها بعلامة الامتياز الكاملة.
تبرز الصورة أكثر لتأثير أم كلثوم فى المشهد الثقافى والفنى العربى، مع محاولة تخيل هذا المشهد دون صوت أم كلثوم، إذ لم يكن الأمر ليقتصر فقط على نقص جمال أغنياتها «أمل حياتى، فكرونى، سيرة الحب، الأطلال» وغيرها من الأغنيات، أو غياب المقاهى التى تحمل اسمها والمنتشرة فى الوطن العربى، أو حيرة المواهب الشابة التى تبدأ حياتها الفنية بإعادة أغنياتها فى إيجاد بوابة ذهبية أخرى لإبهار الحضور وإثبات المكانة.
الأمر لم يكن يقتصر على ذلك فقط، فالمطربة التى ولدت فى نهاية القرن التاسع عشر، تخطى تأثيرها حدود المكان ليتسع إلى الدول العربية والأجنبية، تجاوز حضورها أيضا حدود الزمان، ليمتد سحرها حتى الوقت الحالى، لتضعها مجلة «Rolling Stone رولنجستون» الأمريكية المتخصصة فى الموسيقى بقائمة أفضل 200 مطرب فى التاريخ الفنى العالمى، وتصبح الفنانة العربية الوحيدة التى يوجد اسمها فى القائمة.
السؤال الافتراضى حول غياب أم كلثوم عن المشهد الموسيقى العربى، يجعلنا ندرك أن ذلك الأمر كان ليفقد الشعوب العربية جزءا مهما من وجدانه المُشكل بسحر أغنياتها، إذ اجتمعت الأسرة المصرية والعربية على حب أم كلثوم، لتمثّل روح العالم العربى، ليصفها الشاعر جبران خليل جبران- الذى لم يقابلها- فى قصيدة ويقول عنها: «أنت نابغة الزمان بلغت من عليائه ما ليس يُبلغ بالأمانى».
تغنى الكثير من النقاد بخامة صوت أم كلثوم التى جعلتها قادرة على أن تغنى كل طبقات الصوت، لتجيد الكونترالتو أكثر الأصوات النسائية عمقا، والسوبرانو ذى طبقة الأوكتاف الأعلى بين أصوات النساء، حسبما يقول عنها الفنان الراحل يوسف وهبى، الذى عاصرها منذ بدايتها، موضحا فى حوار تليفزيونى قديم أنه منذ أن بدأت كوكب الشرق الغناء، أطربت الجميع بصوتها، لكن لم يكن أحد يتصور أنه أمام موهبة قد لا يمنحها الله لأحد سوى كل ألف عام على سبيل المثال.
هذا الصوت العاصى على التكرار للتكرار، كان أمينا فى نقل إبداع موسيقيين وشعراء تعاونوا معها، لتضيف إلى كلماتها وألحانهم سحرا خاصا بها، ودونه كان سيفقد الكثير من إبهاره، فلا نستطيع أن نتخيل «يا ليلة العيد» للملحن رياض السنباطى والشاعر أحمد رامى سوى بصوت أم كلثوم، وكذلك روائع المحلن القصبجى «ياللى شغلت البال، وبكرة السفر»، وإبداعات بليغ حمدى ومنها «حب إيه»، ورائعة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب «انت عمرى»، الذى قال عنها فى تصريحات تليفزيونية قديمة: إن الجمهور كان يقف لها احتراما ليس بفضل موهبتها الفنية فقط بل أيضا لسلوكها الاجتماعى واحترامها لفنها، ما كان يجبر الجميع على أن يقدر عطاءها الفنى.
هذا الاحترام لأم كلثوم لم يكن من جانب الجمهور فقط، بل أيضا زملائها من المبدعين فى مصر والوطن العربى الواثقين من أن تعاون واحد معها فى عمل فنى كان يكتب فى تاريخهم بعلامات مضيئة، ومنهم الشاعر السودانى الهادى آدم التى غنت له قصيدة «الغد» بعد أن تحولت إلى «غدا ألقاك» مع إعادة صياغة بعض الأبيات ولحنها محمد عبدالوهاب، لتعد الأشهر فى تاريخ المبدع السودانى صاحب الـ3 دواوين شعرية ونحو 100 قصيدة.
الحنجرة كاملة المراتب كما وصفها الأديب الفائز بجائزة نوبل، نجيب محفوظ، فى مقال عن كوكب الشرق، لا يمكن حصر تأثيرها فى الموسيقى والأغنية العربية وأيضا دورها فى تشكيل وجدان الملايين عبر عقود طويلة من الزمان، ما دعا أكثر من 4 ملايين شخص لحضور جنازة المطربة، التى توفيت يوم 3 فبراير 1975، لكن يبقى اسمها غلافا يزين تاريخ الأغنية العربية.
عمار محسن: كيف أصبحت جزءا من وجدان الشعب المصرى
سؤال يبدو فلسفيًا إلى حد ما، لكن إجابته أبسط مما قد تتخيل، فلو توقفت بالشارع لتسأل أى شخص عن كوكب الشرق السيدة أم كلثوم لأجابك بكل سهولة عن أشهر أغانيها، وماذا يحب أن يسمع لها وما لا يحب.
رغم مرور حوالى 50 عاما على وفاتها منذ عام 1975، فإنه ومع مرور السنوات تظل أغنيات الست موجودة فى الحارة المصرية البسيطة، خاصة مع دخول الليل على المقاهى، تجد صوتها يخرج من أحد الأركان، وكأنها تونس من يريد أن يسمعها ويلتقط كلماتها بكل شجن.
غنت أم كلثوم لكل الفئات والطبقات، فجعلت من دواوين الشعر أغانى يتغنى بها العامة والمثقفون مثل قصيدة «أراك عصى الدمع» للشاعر العربى أبى فراس الحمدانى، وغنت لحافظ إبراهيم «مصر تتحدث عن نفسها» وغيرهما، وغنت للحب بكل حالاته من فرح وحزن واشتياق ولوعة وفراق مثل «الأطلال، وهو صحيح الهوى غلاب، وسيرة الحب، والحب كله» وغيرها الكثير، كما غنت بالعامية المصرية «ألف ليلة وليلة» وغنت لبلادها أغانى وطنية كثيرة.
ولا ننسى أن من ضمن أسرار نجاح أم كلثوم أنها غنت لأكثر من خمسين شاعرا، ويعد شاعرها الأكبر أحمد رامى، صاحب نصيب الأسد فى التعاون معها فى أغنيات مثل «البعد طال»، و«إن حالى فى هواها»، و«زارنى طيفك فى المنام»، و«سكت والدمع تكلم»، و«صحيح خصامك ولا هزار» وغيرها، يليه بيرم التونسى الذى قدمت معه «شمس الأصيل»، و«الحب كدة»، و«هو صحيح الهوى غلاب»، و«القلب يعشق كل جميل»، وتعاونت أيضا مع العديد من الشعراء العرب، منهم الأمير عبدالله الفيصل الذى غنت له «ثورة الشك»، و«من أجل عينيك» وجورج جرداق «هذه ليلتى»، والهادى آدم «أغدا ألقاك»، ونزار قبانى «أصبح عندى الآن بندقية»، و«رسالة»، وغنت لأمير الشعراء أحمد شوقى «الملك بين يديك»، و«عيد الدهر»، و«سلوا كؤوس الطلا»، و«نهج البردة»، و«ولد الهدى»، و«النيل» وغيرها، أما الشاعر صلاح جاهين فغنت له 4 أغنيات وطنية، هى «الله معك» و«والله زمان يا سلاحى»، و«محلاك يا مصرى» ، و«ثوار لآخر مدى».
فى زماننا هذا، إذا أراد شخص ما أن يغنى حسنا فلنعد له اختبارًا من أغنيات أم كلثوم، ولنستمع له، فهى المرجع لمدى جمال وجودة الصوت، وتظل أغنياتها تتغنى فى المحافل المصرية والعربية، وازدادت شهرة بعض المطربات حاليا لمدى روعتهن فى تقديم أغانى الست أم كلثوم على مسرح دار الأوبرا المصرية، مثل «ريهام عبدالحكيم وآمال ماهر ومى فاروق وريم كمال ومروة ناجى» وغيرهن.
أم كلثوم كانت حالة استثنائية فى الأمة العربية بأكملها، فهذه الفتاة البسيطة ابنة الريف والقرى والموالد، حافظة القرآن، صارت ظاهرة فريدة فى تاريخ الغناء بمصر والعالم العربى، تستقبل فى كل دول العالم استقبال الملوك، لكنها ظلت حتى رحيلها ابنة القرية المنتمية إلى جذورها، لا تغيب عنها أبدًا، وكما كان الانتماء للقرية كان الانتماء لمصر والوطن العربى.
أختم الحديث عن كوكب الشرق ببضع كلمات كتبها الكاتب الصحفى أنيس منصور عنوانا من 4 كلمات فى مجلة آخر ساعة بعد وفاتها عام 1975 قائلا: «الموت لا يطفئ الشمس» مع صورة أم كلثوم تتصدر غلاف المجلة، وكأنه يعلم أن شمس كوكب الشرق لن تغيب أبدًا حتى بعد وفاتها.
لميس محمد: تذمرت منها.. ثم علمتنى الحب
مع مرور 50 عامًا على ذكرى رحيل كوكب الشرق أم كلثوم، التى أمتعت الملايين من المستمعين من حول العالم بأغانيها، ووقع فى الحب على كلماتها الكثيرون، ووقع فى غرامها مؤلفوها الذين أثقلوا بكلماتهم شعورنا بالحب، كذلك موسيقى الأغانى التى تمتعنا مهما طال وقتها، ومن منا ينسى كلمات الحب الأبدية التى نستخدمها إلى الآن مع رؤيتنا لموقف عظيم من سيدة أعظم، فتجد نفسك تقول تلقائيا «عظمة على عظمة يا ست».
لكن رغم وقوعى الآن فى حب السيدة العظيمة أم كلثوم، فإننى أتذكر دائمًا- فى صغرى- كم التذمر الذى كنت أشعر به مع ركوبى السيارة مع والدى ووالدتى وعمى الكبير «الله يرحمه»، وهما يستمعون بشغف لأغنية «سيرة الحب»، ويدندنون بأعلى صوت «يا اللى ظلمتوا الحب وقلتوا وعدتوا عليه، قلتوا عليه مش عارف إيه»، مهما كان وقت المشوار الذى نذهب إليه كانت هذه هى أغنيتهم المفضلة، التى يختارون تشغيلها والاستمتاع بها، إلا أننى كنت أتعذب أنا وأخوتى فى هذا الوقت مع الاستماع لساعات لأغنية واحدة.
ومع سير رحلتنا، كان لا يحلو الليل فى الصيف دون كوب الشاى أو القهوة لهم فى بلكونة «الشالية»، ومع السكون والهدوء، يقرر والدى أن يقطعه بتشغيل الأغنية التى يتفاعل معها كل أفراد العائلة، وآخرون يستمعون معنا، كل علاقتنا بهم أنهم يمرون فى الشارع أو يسكنون بالقرب منا.
لكن مع مرور الوقت، وفهم معانى الحب الحقيقية، وجدت نفسى أقوم بما يفعله والدى حتى الآن، مع سفرى بمفردى، ولأن الطريق فى الأغلب يكون طويلا، فأختار تشغيل الأغنية والغناء معها بأعلى صوت مع كوبليه «فى الدنيا ما فيش أبدا أبدا أحلى من الحب، نتعب، نغلب، نشتكى منه لكن بنحب».
وفى اعتقادى أن هذه الجملة من أوقع الجمل التى تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم فى أغانيها المختلفة، التى تحدثت فيها عن الحب والوحدة والعتاب وغيرها من المواضيع التى نعيشها، ولكن فى سيرة الحب بالرغم من الألم الذى يمكن أن نشعر به بسبب فقدان حبيب، أو موت شخص عزيز إلى قلوبنا، فإننا نظل نحب، ونتوقع الأفضل، ونسامح من جديد، وبالتالى نبحث دائما عمن نفضل الاستمتاع معه بكل لحظات الحب، سواء أب، أم، إخوة، أفراد العائلة، أو كل صديق حقيقى أثبتت مواقفه عمق معانى أغانى أم كلثوم.
وبما أن الحب سيبقى هو المحرك الأساسى لكل أفعالنا اليومية، الذى يساعدنا على التغلب على أسوأ الظروف التى من الممكن أن نمر بها، لأنه بمجرد معرفة أن هناك شخصا واحدا على الأقل يحبك حبا صادقا وعفويا، فهذا يشعرك وكأنك امتلكت الدنيا وما عليها.
لهذا فأنا ممتنة بكل لحظة تذمر عشتها مع أغنية سيرة الحب لأم كلثوم فى صغرى التى ساعدتنى على فهم المعانى الحقيقة الآن، والتمييز بين الأغانى الأصيلة التى تعيش حتى بعد مرور نصف القرن من موت صاحبتها، ويقوم بتشغيلها الملايين حول العالم، وليس فقط فى الوطن العربى، ولكن عشق ملايين الأجانب موسيقى أغانيها، ووقعوا فى غرام سحرها حتى دون فهم كلماتها، ولكنهم شعروا بمدى دفء صوتها وسحره الذى يأخذك من عالمك إلى عالم الأحلام.
وفى النهاية، أهدى لوالدى «يا اللى مليت من الحب حياتى أهدى حياتى إليك»، لأنه سيبقى الحب الأول والحقيقى دائما.
خالد إبراهيم: سر الهرم الرابع.. لماذا تتضاعف متعة الاستماع لأغنيات الست حينما تأتى خلسة
لا يزال العالم حتى الآن يطرح النظريات ويفند الدراسات حول أسرار بناء الأهرامات، التى تعتبر من عجائب الدنيا السبع، فحتى الآن لا تزال الأهرامات المصرية سرا غير معروف طريقة بنائه بهذه العظمة الفريدة، الحديث هنا ليس عن الأهرامات الثلاثة فحسب، لكنه أيضا سر ممتد للهرم الرابع المصرى «الست» أم كلثوم، الهرم الذى جاء بعد هرم خوفو بنحو 5 آلاف عاما.
خمسون عاما على رحيل جسد السيدة أم كلثوم، لكن الأثر لا يزال موجودا، فرغم الرحيل، فإن أم كلثوم لا تزال حاضرة فى حياة المصريين، والأعجب، أن الأثر يزداد كلما مرت السنوات على رحيلها، فالأجيال المتعاقبة تعجز عن تهميش ذكرى أو نسيان أعمالها، حتى أصبحت سرا مصريا يشبه أسرار الأهرامات الخالدة.
وغير معروف على وجه الدقة السر الغريب الذى يجعلك تنساق وراء هذا الصوت العذب بإحساسه الناعم والقاهر فى نفس اللحظة، خصوصا إذا جاء صوتها من مصدر مجهول أثناء السير فى الشارع أو الجلوس فى شرفة المنزل، أو مقهى بلدى خاليا من رواده بعد منتصف الليل.
فى هذه اللحظة «يتسرسب» الصوت داخل الأعماق دون استئذان، فتصبح أسيرا له حتى تنتهى الوصلة فى سلام، فتعود إلى الواقع وتتخلص من الأسر.
كثير من الناس يتساءلون عن سبب «لذة» الاستماع إلى صوت الست أم كلثوم، حينما تأتى أغنياتها خلسة، أو حينما تصادفها أثناء تقليب محطات الراديو مساء، تلك اللذة التى تتفوق بسنوات ضوئية على لذة استماع الأغنيات بكامل إرادتك، والعجيب أن أغانى أم كلثوم موجودة بين يديك تقريبا فى هاتفك وعلى التليفزيون وعلى الكمبيوتر وداخل «التابلت»، وكل ذلك «ببلاش» ومجانا.
ولكن تظل تلك الأغنيات، التى تأتى عن طريق الصدفة البحتة، أكثر إمتاعا، هل هناك أسباب نفسية تجعلنا دائما «دقة قديمة»، أم أن صعوبة الوصول للشىء، أكثر إمتاعا من الشىء نفسه؟
فى كثير من الأحيان أحسد الأجيال السابقة التى عاصرت أم كلثوم، أو حتى عاصرت جزءا من مسيرتها الفنية، حينما كانت مصر تلتف حول التليفزيون أو الراديو فى الخميس الأول من كل شهر، فى انتظار كوكب الشرق فى زيارتها الشهرية لهم، وأتخيل كيف كانت أجواء الملتفين حول المذياع والتليفزيون فى شهور الشتاء، وكأن صوت أم كلثوم هو المدفأة التى تدفئهم.
كيف كانوا يستقبلون أغنياتها الجديدة فى عصر لم يكن فيه «تريند»، أو سوشيال ميديا، تقتل كل شىء تحليلا وتفحيصا وتأويلا، حيث كانت ذائقتهم باللحن والكلمة، كيف كانوا يستعدون لحضور إحدى حفلاتها، وكيف انعكس رقى الزمن على رقى الجمهور وذوقه، والأهم من هذا، كيف كانوا ينظرون لأم كلثوم، وهى بينهم تطرب وتشدو وتُتمتع وتُسلطن محبيها فى مصر والوطن العربى وفى العالم بأسره، وأخيرا، هل كانت تعلم أم كلثوم بكل هذه العظمة، أن هناك زمنا سيصبح فيه الاستماع إلى صوتها بالصدفة، أكثر إمتاعا من وضع أسطونة فى جهاز الجرامافون.
الحقيقة أننا لا ننتظر صوت أم كلثوم من مصدر مجهول، لكنها المباغتة التى تلمس بداخلنا أوتار الماضى، وذكرياته الجميلة، ومشاهده التى لا تنسى.
رامى سعيد: من مقاطعة الجمهور لغنائها بالصفافير إلى «كمان مرة والنبى يا ست»
القاهرة سنة 1926. المكان كازينو البوسفور- الواقع بميدان الحديد- رسم الدخول 5 قروش، على الواجهة من الخارج صورة لشابه فى مقتبل العمر ترتدى عقالا وبلطو أزرق، أسفلها اسم الآنسة أم كلثوم وإلى جوارها عبارة منشدة ومغنية، الوافدون لا يبدو على محياهم أنهم مختلفون عن نوعية الجماهير السائدة فى ذلك الوقت، إذ إن أغلب القادمين إلى المسارح والكازينوهات لا ينشدون السمع أو الطرب وإنما السكر والفرفشة.
الغناء الرائج هو- الطقاطيق الخفيفة الخليعة غالبا- المغنيات المشهورات هن «سيدة الغناء منيرة المهدية والسيدة نعيمة المصرية والسيدة فتحية أحمد»، الناس كل ليلة فى الصالات سكارى يعبرون عن أعجابهم بإلقاء طرابيشهم فى الهواء وعلى المسرح، بعدما يطلبون إعادة أغنيات: «اوعى تكلمنى بابا جى ورايا».. أو «ارخى الستارة اللى فى رحنا.. أحسن جيرانك تجرحنا».
فى تمام الساعة العاشرة مساء، كانت الجماهير قد تراصت أمام المسرح بعدما صعدت على خشبته الآنسة أم كلثوم، التى ما أن بدأت تغنى «سبحان من أرسله لكل من يسمع ويبصر»، حتى طالبها الجماهير بأن تكف عن الغناء، عاندت الآنسة وحاولت أن تتابع ما بدأته، غير أن الجماهير قاطعتها مرة ثانية بالصفافير، مرة ثالثة استمر الغناء إلى أن ثارت الجماهير هذه المرة ثورة عارمة لم يحبطها غير كف ثقيلة هوت بسرعة خاطفة على وجه الآنسة أم كلثوم.
لم يمض وقت طويل حتى تلقت الآنسة أم كلثوم دعوة لإحياء حفل فى قرية تقع بجوار بلدة ميت العامل فى مركز أجا محافظة الدقهلية، ذهبت أم كلثوم كما تقضى العادة، وما أن بدأت غناءها فى دوار العمدة مكان الحفل حتى فوجئت بوقوف أحد الحضور قائلا: «إيه الغم ده.. عاوزين نفرفش».
استمرت الآنسة أم كلثوم فى غنائها غير أن الشخص نفسه عاد ليقف مرة أخرى قائلا: «عايزين نفرفش، عايزين شوية مياعة، شوية مواويل،غنى يا ليل يا عين»، لكن الآنسة أم كلثوم لم تلتفت، واستمرت فى الغناء إلى أن فوجئت بالشخص يقف مخمورًا وسط الدوار وفى يده مسدسًا مصوب ناحيتها قائلا بوعيد: «اللى مش عجبه يطلع برة»، لحظات وكان الجميع قد فر من المكان، ولم يتبق فى الدوار سوى أم كلثوم وأبيها وأخيها خالد، ترجى الأب الشخص- الذى عرفوا منه أنه ابن العمدة- أن يُبعد مسدسه، لكنه رفض وأصر أن تغنى له ما يريد، قابلت أم كلثوم هذا العناد بعنادٍ أشد، واستمر الموقف دقائق ثقيلة بدت كدهر إلى أن أرسلت العناية الإلهية رجلا كان يمر بالمصادفة، فخطف المسدس من يد ابن العمدة بعدما أوسعه ضربًا.
لم يكن يمر شهرا أو حتى أسبوعا دون أن تواجه الآنسة أم كلثوم مشكلة من هذا النوع، بسبب إصرارها الدائم على عدم مجاراة التيار السائد وقتئذ، فقد كانت توقن فى صميمها- رغم الوحل الذى تغوص فيه القاهرة بسبب الاحتلال وفشل ثورة 19 فى تحقيق أهدافها- أنه لا يزال هناك بهاء ناقص فى هذا الوجود ينتظر أن يبعث من مكان ما فى أعماقها.
وداد خميس: أم كلثوم إبداع صالحنا به أيامنا
"صالحت بيك أيامي.. سامحت بيك الزمن.. نستني بيك آلامي.. ونسيت معاك الشجن".. كلمات قدمتها كوكب الشرق أم كلثوم من أشعار أحمد شفيق كامل في الستينات، وهي الوصف المناسب لما تفعله بنا أغاني الست، فكل أغنية أو قصيدة تغنت بها لها تأثير كبير في وجدان محبيها ومستمعيها، ولم يزول هذا التأثير بمرور عشرات السنوات على أغانيها، أو برحيلها عن عالمنا منذ 50 عاما، وإنما ظل صوتها وإحساسها قادر بشكل كبير على التعبير عنا وعن مشاعرنا المختلفة، وبمثابة طبطبة كبيرة على قلوب جمهورها.
وكما قال عنها الأديب عباس العقاد، فأم كلثوم "أثبتت أن الغناء ليس فن حناجر وأفواه فقط، وإنما فن عقول وقلوب"، وبالفعل فالست كانت دائما تغني ما تفهمه وتشعر به، لذلك تمكنت بقوة من تشكيل وجدان أناس كثر ليسوا في مصر فقط إنما بالوطن العربي بأكمله، وامتد تأثيرها ليصل إلى كل دول العالم، وأصبح فنها بمثابة منهجا على مرتادي الفن دراسته والتعلم منه، فهي ليست مجرد صوتا إنما فنا منفردا لن يتكرر.
فهي الفنانة المتفردة الذي يجذب صوتها الصغار قبل الكبار، والبسطاء قبل المثقفين، فخلال مشوارها الفني تمكنت من تحقيق المعادلة الصعبة في أي نجاح، وهو أن تكتسب دعم وحب جمهور من مختلف فئاته وأطيافه، فيصدح صوتها عاليا في القهاوي أو المكاتب أو البيوت من خلال أجهزة التسجيل القديمة أو الأجهزة التكنولوجية الحديثة، ولكن الثابت وحده هو تأثير ذلك الصوت، واندماج كل مستمع لها مع عذوبة كلماتها وإحساسها.
وعلى الرغم من البدايات الصعبة في مشوار أم كلثوم، وفقر أسرتها في صغرها، إلا أنها تمتعت دائما بالإصرار الكبير على الوصول والتعبير عن نفسها وعن صوتها، بداية من تغنيها في القرى المجاورة لها بمقابل زهيد من أجل مساعدة أسرتها، مرورا بسعيها الدائم عن طريقها والوصول إلى حلمها، ولم يتوقف إصرارها باعتمادها على صوتها القوي فقط وانتقالها إلى القاهرة ومساعدة الشيخ أبو العلا محمد في بداية مشوارها الفني، إنما أيضا بسعيها للمحافظة على النجاح الذي حققته، واستخدام كل صعوبة أو شائعة واجهتها كأنها سلم تصعد به أسرع إلى ما تريده، وتعلم وتجربة كل ما هو مختلف، فاستغلت المقامات الموسيقية التي عرفتها، لتجربة "التلحين"، من خلال أغنيتين لها، وإخلاصها إلى صوتها.
"لماذا أم كثوم"، هو تساؤل يصعب الإجابة عليه أو تلخيصه في أسباب محددة، فأم كلثوم ليست مجرد مطربة مصرية وعربية عظيمة، وإنما هي واحدة من السيدات التي أثبتت موهبتها بقوة، وأثرت المكتبة العربية بعشرات الأغاني والقصائد التي إذا تخيلنا الفن بدونها لا نجد توازنا أو تميزا في تاريخ تلك المكتبة، يكفي أننا عندما نتابع أي برنامج لاكتشاف المواهب، نجد أن تقييم أغلب المتسابقين والحكم عليهم يتم من خلال اكتشاف هل يستطيع غناء "كوبليه" لأم كلثوم أو لا، والمتسابق الذي ينجح في مذاكرة مقاطع لأم كلثوم، يكون ذلك بمثابة جواز موهبته، لأن فن أم كلثوم تخطى الموهبة أو الصوت، وأصبح له قدرات خاصة ومقامات موسيقية معينة لا يستطيع أي شخص الوصول إليه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة