ما الذي يباح للخاطب رؤيته ممن يريد خطبتها؟ وهل يشترط لجواز نظره إلى جمالها ومحاسنها التي تدعوه للزواج بها أن يكون ذلك اختلاسًا بغير علمها وبحيث لا تشعر به؟ أم يجوز أن يكون ذلك بعد طلب منه وإذن منها لينظر ما أباح له الشرع رؤيته من حسنها؟، سؤال أجابت عنه دار الافتاء بالآتى:
ولعظم أمر النكاح وقداسة رابطته التي تجمع بين الزوجين وتؤلف بين عائلتيهما في علاقة نسب وصهرية؛ كان من الضرر الجسيم بناء هذه العلاقة الشريفة على دغل من الخداع والتدليس، وإخفاء ما يمكن أن يترتب عليه بعد ذلك نزاعٌ ونفرة بين الطرفين، ومن هنا كانت الحاجة ماسة لمشروعية الخطبة، وإتاحة النظر بين الخاطب والمخطوبة للتأكد من حصول الملائمة والقبول التام بينهما قبل الشروع في عقد النكاح، وما يليه من تكاليف وحقوق والتزامات متبادلة بين الطرفين، وقد جاءت الشريعة الإسلامية ملبية لكل هذه الحاجات على أكمل وجه، فجاز للرجل إذا كان جادًّا في طلب النكاح أن ينظر إلى المرأة ليتأكد من ملاءمتها له دون أن يكون استئذانها ولا استئذان أوليائها شرطًا في إباحة النظر للخاطب، فيجوز له النظر ولو على غفلة منها كما قال جمهور العلماء.
بل صرح بعض الفقهاء كالْأَذْرَعِيُّ من الشافعية وغيره: بأن الأولى للخاطب أن ينظر إليها بغير علم منها ولا استئذان؛ ليتجنب إخفاءها عيـبًا ظاهرًا فيها أو إظهارها تزينًا وحسنًا مصطنعًا فيفوت غرضه من النظر، وكذا ليتجنب إحراجها وإيذاءها إذا استأذنها ونظر ثم أعرض عنها، ولم يستبعد الحنابلة أن يكون النظر بلا إذن منها هو الأولى.
والأصل في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيما رواه مسلم في "صحيحه" عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟»، قَالَ: لَا، قَالَ: «فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا».
فهذا الحديث الشريف يدل بمنطوقه على أن مما شرع لأجله نظر الخاطب ومريد النكاح التأكدَ من خلو المرأة من العيوب الظاهرة أو الصفات غير المرغوبة، أو التأكد من قبول الخاطب لها على ما هي عليه في ظاهرها؛ وذلك للاحتراز عن وقوع النفرة والشقاق وتكدير العلاقة بينهما عند اكتشاف تلك الصفات أو العيوب بعد النكاح، ودلَّ الحديث بمفهومه على أن هذا النظر حق للمرأة أيضًا؛ لاشتراك كل منهما في حق الاحتراز عما ينفره ويكدر عليه حياته الزوجية؛ ولاشتراكهما في التضرر بحصول الفرقة، بل ضرر المرأة وأهلها يكون غالبًا أشد.
وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فيما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن المغيرة بن شعبة، قال: خَطَبْتُ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا»، ومعنى قوله عليه السلام: «أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» أي: أحرى أن تدوم المودة بينكما؛ كما قال الإمام الترمذي.
ودلَّ الحديث على أن النظر للخطبة مشروع للوقوف على مدى الملاءمة وإمكان التآلف بين الرجل والمرأة، ولتهيئة نفس كل منهما للاندماج مع الآخر في أسرة واحدة وحياة كريمة، فالنظر للخطبة مستحب؛ لأنه يمهد لذلك ويعين عليه.
وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فيما رواه أبو داود في "سننه" وأحمد في "مسنده" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ»، قال -يعني جابر-: "فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها فتزوجتها".
وفي رواية أخرى عند أحمد: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، فَقَدِرَ أَنْ يَرَى مِنْهَا بَعْضَ مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهَا، فَلْيَفْعَلْ».
وحديث محمد بن مسلمة رضي الله عنه فيما رواه ابن ماجه وأحمد، عن محمد بن مسلمة، قال: خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهَا فِي نَخْلٍ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِذَا أَلْقَى اللهُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا».
والحديثان بظاهرهما يفيدان مشروعية واستحباب نظر الخاطب إلى ما يتحقق بنظره إليه عادة الاستحسان والرغبة في نكاح المرأة، سواء حصل هذا النظر بإذنها وعلمها أو بغير علم منها ولا إذن، فالحديث مطلق في هذا، وأكد دلالتَه على الإطلاق فعلُ الصحابيين جابر بن عبد الله، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم بعد سماعهما الحديث ونظرهما بغير استئذان، كما يؤكده أيضا حديث رواه أحمد، والطبراني في "الأوسط"، عن أبي حُمَيْدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ».
ولأجل الإطلاق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَةٍ»، وعدم تحديد ما الذي يراه منها؛ تعددت اجتهادات الفقهاء وآراؤهم فيما يحلُّ للخاطب رؤيته من المخطوبة.
فذهب جمهور العلماء إلى تقييد هذا الإطلاق بما عدا عورة الصلاة، فقالوا بجواز النظر إلى الوجه والكفين دون ما عداهما؛ لأن هذه الأعضاء ليست بعورة؛ ولأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها؛ كما قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (9/ 210)، ولأنها مواضع ما يظهر من الزينة المشار إليها في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 31]، وقد فسر جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم الزينة الظاهرة بالوجه والكفين، نقل ذلك عن ابن عباس وأنس وعائشة رضي الله عنهم.
يقول الإمام الطبري وهو من كبار أئمة التفسير وأحد أئمة الاجتهاد بعد أن نقل عن الصحابة والتابعين تفسيرات متعددة للزينة الظاهرة المستثناة في الآية في تفسير الطبري "جامع البيان" (19/ 158-159، ط. مؤسسة الرسالة): [وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال -عنى بذلك- الوجه والكفان] اهـ.
فبهذا القدر تتحصل حاجة الخاطب وتنتهي رخصته في النظر إلى ما يدعوه لنكاح المرأة، والأصل عدم جواز النظر إلى المرأة، فلا يباح إلا للحاجة وبقدرها. ، فالنظر إلى المخطوبة لو لم يشرع لم يجز. ، وما ذهب إليه الجمهور هو أرجح الأقوال في المسألة.
وذهب الحنابلة في المعتمد لديهم من الروايات الثلاث عن الإمام أحمد إلى جواز النظر إلى الوجه والكفين وما يظهر من المخطوبة غالبًا، أي في بيتها كشعر الرأس والرقبة والذراع والقدم والساق. ، ووجهوا مذهبهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أذن في النظر إليها من غير علمها، علم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر عادة إذ لا يمكن إفراد الوجه بالنظر مع مشاركة غيره له في الظهور؛ ولأنه يظهر غالبًا، فأبيح النظر إليه كالوجه، ولأنها امرأة أبيح له النظر إليها بأمر الشارع، فأبيح النظر منها إلى ذلك، كذوات المحارم.
وقد يُعترض على هذا التعليل بأن إباحة نظر الخاطب إليها للحاجة، فتقدر بقدرها، وتتحصل برؤية الوجه والكفين، فلا يباح ما زاد على ذلك، والقياس على ذوات المحارم قياس مع الفارق لديمومة الصلة بهم ولانتفاء الشهوة والفتنة معهم بخلاف من يريد نكاحها ولا قطع بأن يتم له ذلك، والإذن في النظر بالاتفاق مع الحنابلة ليس مطلقًا، ولا بد له من قيد، فلا يعمُّ جميع الأماكن، وإلا لقالوا بجواز النظر إليها في محلِّ الاغتسال وما يظهر منها غالبًا فيه، ولا يعمُّ جميع الأحوال، وإلا لقالوا بجواز النظر إليها متجردة من الثياب، ولا نصَّ شرعيًا يفيد التقييد بما يظهر منها غالبًا في البيت، في حين أن التقييد بالوجه والكفين تقييد بما دلت عليه نصوص شرعية من كونها من الزينة الظاهرة، وكونها ليست بعورة في الصلاة ولا في الحج، وبجواز النظر إليها عند المعاملة للحاجة، فالوقوف عند هذا الحد والتقييد به وقوف عند منصوص وتقييد به، فلا يقوى على معارضته تقييد الحنابلة بما يظهر غالبًا؛ لأنه تقييد بالرأي في مقابلة التقييد بالنص وعرف الشرع.
وذهب الإمام الأوزاعي إلى جواز النظر إلى مواضع اللحم من بدنها. وحكى ابن عقيل رواية في المذهب الحنبلي بأن للخاطب النظر إلى ما عدا العورة المغلظة وهي الْفَرْجَانِ.
وذهب بعضهم كالظاهرية والإمام أحمد في رواية عنه إلى جواز النظر إلى جميع بدنها، ما ظهر منها وما بطن، عورة كان أو غير عورة، وذكر ابن القيم بأن الإمام أحمد نص في رواية على جواز النظر إليها وهي مُتَجَرِّدَة. ، و"حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" ، وقد اعترض العلماء على مثل هذه الآراء المتوسعة بأنها خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع؛ كما يقول الإمام النووي.
وذهب الإمام أحمد في ثالث الروايات عنه -وهي من مفردات المذهب الحنبلي- إلى جواز النظر إلى الوجه فقط، بناء على أحد القولين في المذهب بأن اليدين من العورة. "
وذهب بعضهم إلى عدم جواز النظر إلى شيء منها قط؛ فقالوا: لا يجوز ذلك لمن أراد نكاح المرأة، ولا لغير من أراد نكاحها إلا أن يكون زوجًا لها أو ذا رحم محرم منها.
قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (9/ 210): [وحكى القاضي عن قوم كراهته -أي النظر إلى وجه من يريد تزوجها- وهذا خطأ مخالف لصريح هذا الحديث -أي حديث أبي هريرة- ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة] اهـ.
فالآراء كثيرة منها الشاذ ومنها القريب، والتوسط هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من التقييد بالوجه والكفين.
وفيما يتعلق بشرط استئذان المخطوبة في جواز نظر الخاطب إليها، أو عدم شرطه بحيث يستوي فعله وتركه، أو شرط عدمه بحيث يجوز النظر إليها وهي لا تعلم، ولا يجوز بعلمها؛ فبحسب الآراء السابق ذكرها قال جمهور العلماء بجواز النظر إلى الوجه والكفين فقط سواء استأذنها أو لم يستأذنها، وذكر الحنابلة أن رؤية ما يظهر منها غالبًا كشعر ورقبة وقدم وساق بغير علمها ولا إذنها لعله يكون الأولى، فيجوز على مذهبهم أن يستأذن في رؤية ذلك، وإن كان خلاف الأولى، واشترطوا كسائر الفقهاء أن يكون النظر من غير خلوة، وقالوا: إن شق عليه النظر أو كرهت المخطوبة ذلك بعث إليها امرأةً ثقةً تتأملُها ثم تَصِفُهَا له ليكون على بصيرة.
ومذهب المالكية أنه يكره للخاطب اسْتِغْفَالُهَا والنظر إليها بغير إذنها وهي لا تعلم؛ حتى لا تقع عينه على ما لا يجوز له رؤيته من العورات ، ولئلا يتطرق أهل الفساد لنظر النساء ومحارم الناس ويقولون: نحن خطاب، ومحل كراهة الاسْتِغْفَال هو ألا يعلم الرفض وعدم إجابته لو سألها أو سأل وليها النظر للخطبة؛ أما لو علم ذلك فيحرم النظر الاسْتِغْفَال إن خشي الافتتان بها.
والذي لا نتصور غيره أن الآراء التي أباحت للخاطب رؤية جميع أجزاء بدنها؛ سواء كانت عورة أو غير عورة، تشترط في جواز رؤية العورة أن تكون على غفلة منها دون علم ولا استئذان؛ لأنه من غير المتصور أن يقول فقيه بأن الشريعة تبيح لكل خاطب أن يسأل المرأة رؤيتها متجردة أو تسأله ذلك، فهذا يتنافى بالكلية مع الشرائع السماوية والأعراف الاجتماعية ومكارم الأخلاق.
ومما سبق يتبين أنه يستحب للخاطب أن ينظر إلى المرأة التي يريد خطبتها ونكاحها؛ ليكون على بصيرة من أمره، وأنه يحلُّ له النظر منها إلى الوجه والكفين بإذنها وبغير إذنها على القول الراجح المختار عند جمهور أهل العلم، وهذا ما عليه الفتوى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة