نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام.. نورما أبو جياب تحمل الكاميرا وكأنها درعا.. عدسة تصمد فوق الأطلال وتكتب الضوء فى زمن المعاناة.. المصورة الفلسطينية: كنت أذهب لعملى وفى أى لحظة ممكن أكون هدفا للقصف

السبت، 06 ديسمبر 2025 01:00 م
نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام.. نورما أبو جياب تحمل الكاميرا وكأنها درعا.. عدسة تصمد فوق الأطلال وتكتب الضوء فى زمن المعاناة.. المصورة الفلسطينية: كنت أذهب لعملى وفى أى لحظة ممكن أكون هدفا للقصف المصورة نورما أبو جياب

كتب أحمد عرفة

<< نحن شعب تعود على الصمود وهذه ليست أول حرب نخوضها

<< شاهدت أم تستقبل استشهاد ابنها بكلمة الحمد لله وما نسيت وجهها

<< حفلات الزفاف في الحرب كانت رسالة "الحياة بدها تستمر"

<< النزوح اختصر عمري بشنطة وتركت بيتي ثلاث مرات

<< الغربة داخل غزة أصعب من الغربة خارجها لأن الأمان اختفى

<< القصف والموت صاروا نصيب ونحن نعيش مع احتماله كل يوم

<< فرحنا بانتهاء الحرب لكن الجروح تفتحت أعمق من قبل

<< المرأة الفلسطينية تصنع الطعام من العدم وتصبر على البلاء

<< واجهنا البعوض والحشرات كأنها حرب ثانية

 

في زمن تتكاثر فيه العتمة فوق غزة، وتضيق فيه المساحات التي يمكن للإنسان أن يلتقط فيها أنفاسه، تظهر حكايات أشبه بأوثق الشهادات على صمود الإنسان الفلسطيني، من بينها تبرز قصة المصورة نورما أبو جياب، امرأة حملت كاميرتها كما لو كانت درعا، ووقفت بها وسط القصف والنزوح، وفقدان الأحبة، لتوثّق ما تبقى من ملامح الحياة ولحظات الفرح القليلة التي قاومت الموت.

ورغم أن الحرب في غزة لم تترك أحدا دون جرح، بقيت "نورما" من بين المتشبثين بفكرة أن للحياة مكانا، وأن الصورة قد تكون وسيلة للحفاظ على هذا المكان ولو كان ضيقا، هشا، ومهددا في كل لحظة.

المصورة الفلسطينية نورما أبو جياب
المصورة الفلسطينية نورما أبو جياب

نحن شعب تعود على الصمود

تحدثنا مع نورما أبو جياب، وهي واحدة من صانعات الأمل وسط الركام، لتكشف كيف مارست عملها خلال الحرب في تصوير حفلات الزفاف، كما وثقت بكاميرتها المجازر والحرب ومزجت بين الابتسامة والخوف والبكاء، حيث تبدأ حديثها بعبارة تختصر تاريخا طويلا من المواجهة: "بالنسبة للصمود، نحن شعب تعود على الصمود، وعشنا حروب كثيرة ودائما كان أملنا بربنا موجود".

لا تقول "نورما" الجملة بوصفها شعارا، بل كحقيقة عاشتها في التفاصيل اليومية، في كل مرة نجا فيها طفل من قصف، وفي كل أم حملت حزنها ورددت "الحمد لله" ولم تنس وجهها ، وفي كل بيت تهدم وبقي أصحابه يرددون أن الفرج قريب، فغزة بالنسبة للمصورة الفلسطينية ليست مجرد مكان محاصر، بل مدرسة تعلم أبناءها كيف يواصلون الحياة رغم حرمانها المستمر.

سمية أبو جياب
سمية أبو جياب

حفلات زفاف في قلب الحرب

رغم الجراح، لم تتوقف الحياة تماما، حيث تصف "نورما" في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، مشاهد بدت للكثيرين مفارقة قاسية :"ازدادت حفلات الزواج خلال الحرب، ليس احتفالا كاملا كما نعرفه، بل محاولة للتمسك بسيرورة الحياة"، كانت تقول لنفسها وهي تحمل كاميرتها وتتجه إلى عملها: "الحياة بدها تستمر وبدها تمشي"، لكن الطريق إلى أي مناسبة كان مرعبا.

وتتحدث عن رحلة الموت كما تصفها خلال ذهابها للعمل في تصوير المناسبات خلال الحرب: "“كنت أذهب إلى عملي وأنا في أي لحظة معرضة إني استهدف وتعرضت للموت كثيرا"، كانت تعرف أنها تغامر بحياتها، وأن لحظة واحدة قد تنهي كل شيء، لكنها لم تتراجع، خاصة أن الزفاف في غزة لم يعد مجرد مناسبة اجتماعية، بل إعلان تمسّك بالحياة في وجه الموت.

الذاكرة تتحول إلى حقيبة صغيرة

تصف نورما تجربة النزوح بمرارة واضحة، وتعتبرها أصعب ما عاشته خلال الحرب: "شعور صعب إنك تترك بيتك وتختصره بشنطة ولا يهون عليك ترك بيتك وأغراضك، فقد نزحت ثلاثة مرات، وأجبرت على إعادة حزم ما يمكن حمله من العمر، وترك ما تبقى للدمار أو السرقة أو النسيان".

في المرات الثلاث لم يكن المكان الجديد يشبه البيت، فكما تقول: "تشعر حالك غريب بمكان أنت ما بتعرفه لأنه شعور الأمان يكون غير موجود"، تلك الأماكن التي لجأت إليها المصورة الفلسطينية، رغم ازدحامها بالناس، كانت تفتقر لأبسط مقومات الحياة، فلا مياه نظيفة ولا شوارع قابلة للعيش ولا رقابة من أي جهة قادرة على التدخل أو المساعدة.

حين يصبح لكل بيت شهيد

لم يكن النزوح وحده ما قاسته نورما، فقد واجهت الفقد مرارا مثل كل بيت في غزة، حيث تصف هذا الأمر قائلة :"فقدت كثيرين، وما في بيت في غزة ما تعرض للفقد، وأكثر شخص أثر في كانت خالتي فهي بمثابة أخت".

تعرضت خالتها للقصف، وخرجت من الموت بأعجوبة، لكن الفكرة الثقيلة بقيت تلاحقهم: "القصف والموت نصيب"، فلم يعد الموت شيئا طارئا في غزة، بل احتمالا دائما يسير مع الناس أينما ذهبوا، ويغلق الأبواب خلفهم، ويجلس في قلب كل حديث.

نورما أبو جياب تحتفل بعيد ميلادها
نورما أبو جياب تحتفل بعيد ميلادها

الزواج والولادة الحياة تتمسك بنفسها

رغم الخسارات، تتحدث المصورة الفلسطينية عن جانب آخر من حياة غزة في الحرب، جانب يثبت أن البشر قادرون على خلق الضوء ولو على حافة الانهيار، حيث تتحدث :"كانت تزيد حالات الزواج خلال الحرب ليس فقط للزفاف، على مفهوم إن الحرب رح تستمر، وفعليا حالات الولادة بالحرب كانت بنسب كبيرة مقابل أناس كثيرون استشهدوا".

في مخيمات النزوح، وفي البيوت المهدمة، وفي العراء، ولد أطفال، كبروا على صوت الطائرات بدل صوت التهويدة، وعلى أنقاض البيوت بدل أسرة الأطفال، ومع ذلك، ظلوا شاهدين على أن الحياة، برغم هشاشتها، أقوى من الموت، هذا ما وثقته نورما أبو جياب بكاميراتها خلال الحرب

الفرح المؤجل وعودة الألم

تشرح نورما كيف أن انتهاء الحرب لم يكن نهاية الألم، بل بداية مرحلة جديدة من مواجهة الذاكرة، حيث تضيف: "فرحنا بانتهاء الحرب، لكن الجروح تفتحت وكل إنسان صار يتذكر وجع بيته والفقد والوجع، وما إن توقفت أصوات الانفجارات، حتى ظهر الصوت الآخر وهو صوت الذاكرة"، وبدأ الجميع يواجهون صور الشهداء، أماكن الأحبة، الحوائط التي سقطت فوق الذكريات، والأصوات التي باتوا يخشون أن يعود صداها في الليل.

المرأة الفلسطينية عمود البيت في زمن الانهيار

تكرم نورما المرأة الفلسطينية بكلمات تليق بتجربتها: "المرأة الفلسطينية مرأة عظيمة، تتحمل كثيرا، ومن طهي على النار لاختراع أكل في ظل الأزمة، للصبر على البلاء".

كما تتحدث عن نساء كن يعدن صناعة الحياة من العدم، حيث يبنين أفرانا بدائية، يخترعن أكلات من المفقود، ويواسين أطفالهن بينما يخفين خوفهن، كل هذا وثقته عبر الكاميرا خلال 733 يوما من الحرب، حيث تتحدث عن أصعب مشهد شاهدته خلال رحلة التوثيق وهو أم فلسطينية تُستشهد ابنتها أو ابنها، فتقول "الحمد لله"، ليس لأنها لا تشعر بالألم، بل لأنها صارت تعرف أن الصبر هو الطريق الوحيد للبقاء.

الأمراض المتفشية والحياة وسط الركام

الحرب لم تنته بانتهاء القصف، فالأوبئة انتشرت مع انتشار الركام والمجاري المفتوحة، وهو ما تكشف عنه نورما أبو جياب :"من الطبيعي انتشار الأوبئة بسبب الركام والمجاري والشوارع مدمرة ويوجد نظافة ولا رقابة"، موضحة أن الكثير من العائلات نصبوا خيمهم إلى جوار مصادر التلوث، لأنهم لم يجدوا مكانا آخر.

وتضيف: "واجهت البعوض بشكل كبير، وهناك حشرات كانت تنتشر بالجو بسبب الدمار وكأنها حرب ثانية"، حيث حرب جديدة كانت تبدأ يوما ضد الأمراض، في ظل غياب الدواء.

رسالة بلا رسالة

حين طلنا من "نورما" أن توجه رسالة للعالم، أجابت: "بصراحة ما لي رسالة، نحن نتوكل على الله سبحانه وتعالى، خلال الحرب ناشدنا العالم كثيرا لكن  كان صامت"،  رسالة لا تحمل غضبا بقدر ما تحمل يأسا متعبا من انتظار لا طائل منه، فالعالم، الذي رأى الصور التي التقطتها وأمثالها، لم يفعل شيئا لوقف الموت.

ومع ذلك، تبقى نورما شاهدة على الدمار، وعلى الحب، وعلى الفقد، وعلى الأمهات، وعلى رسائل لم تقرأ، وصور لم تنشر، ووجوه اختفت تحت الركام، تبقى بكاميرتها وصمودها، جزءا من الرواية التي لا تنتهي، رواية غزة التي تتعلم كل يوم كيف تعيد بناء نفسها من جديد، ولو من عدسة صغيرة، أو من قلب مكسور،  أو خطوة خائفة وسط طريق مليء بالغبار.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب