حددت وزارة الاوقاف موضوع خطبة اليوم الجمعة الموافق 5 ديسمبر بعنوان "العقول المحمدية"، موضحة أن الهدف منها التوعية بضرورة التفكير الإيجابي وإعمال العقل والآثار الوخيمة للتَّفكير السَّلبي.
كما حددت موضوع الخطبة الثانية بعنوان: التحذير من التشكيك والحيرة ونشر روح التشاؤم في كل شيء.
العقول المحمدية
الحمد لله الذي أضاء بنور العلم قلوب العارفين، وزين به عقول العاملين، ورفع به شأن المتقين، نحمده حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، الذي أرسله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،،،
فإن العقول المحمدية السامية ليست مجرد نتاج ذكاء فطري عابر، ولكنها تجسيد لمنهج رباني فريد في صياغة الوعي وإحكام البصيرة، فهي تلك العقول التي رعتها المفاهيم القرآنية الهادية، وصاغتها أنوار النبوة الزاهية، فلم تترك أبدا لتتقاذفها أمواج الظنون والأهواء، بل سكنت في كنف رعاية إلهية متواصلة، فالعقل المحمدي المتكامل هو مصدر تفكير إيجابي، يتجسد في فعل البناء لا الهدم، وفي دأب العون لا الإعاقة، وهو القادر على تحرير الذات من وحل العجز والشكوى، ليصعد بها إلى سماء العمل والأمل، فيغدو صاحبه منارة وهاجة، تكتنف ذويه ومن حوله بدفء السند ونور التأييد، يرتوي المجتمع بأسره من غيث جوده المبارك وفيض عطائه المنساب، قال سبحانه وتعالى: ﴿يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب﴾.
أيها المكرمون: أما سمعتم تلك النداءات الإلهية الصادحة في كتاب الله: ﴿أفلا تتفكرون﴾، ﴿أفلا تعقلون﴾، ﴿أفلا يتدبرون﴾؟ لقد كان القرآن الكريم منطلقا أصيلا في الأمر بالعناية الفائقة بالتعقل والتدبر، فليس صدفة أن يكثر الحق سبحانه من ذكر العقل ومشتقاته بصيغ متنوعة، كلها تعلي من شأن قيمة التفكير، ونبل التدبر، وشرف إعمال النظر؛ ولم يكتف الخطاب الإلهي بهذا الذكر، بل دعمه بذكر ألفاظ أخرى تعاضد وظيفة العقل وتغذيها وتجليها، مثل: التفكر، التذكر، النظر، البصيرة، والألباب، وهي كلها إشارات نورانية متتابعة تبرز حقيقة لا تقبل الجدل وهي أن للعقل مكانته وللفكر ميزانه، فصناعة العقل الواعي المستنير ليست هامشا أو أمرا ثانويا في الدين، بل هي جزء أصيل من بناء الإنسان المؤمن المتكامل وشرط لازم للقيام بأمانة الاستخلاف، ولهذا يدين الخطاب الإلهي وبشدة أولئك الذين منحوا هذه النعمة الكبرى وأدوات التدبر والفهم، فتركوها معطلة ولم يستخدموها فيما خلقت له من هداية وإصلاح وعمارة للكون، يقول عز وجل: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾، وقيل لأم الدرداء: "ما كان أفضل أعمال أبي الدرداء؟ قالت: "التفكر".
أيها الأكارم: ألا ترون معي عظم نعمة العقل التي منحنا؟ إن العقل السطحي هو عقل محبوس في فوضى الجزئيات؛ سابح على زبد الحياة، ومأخوذ بسطوة التفاصيل العابرة، هذا العقل المشغول بضجيج الحياة لا يورث حكمة ولا ينشئ معرفة، بل يبدد العمر في تتبع التفاهات ويفوت على صاحبه كنوز التأمل، على النقيض منه، يقف العقل العميق؛ ذاك العقل الذي نصب منصته فوق الأحداث، لا ليدير ظهره للواقع، بل ليراه شاملا مستوعبا ومترابطا، إنه صانع المناهج، ومنتج الحكمة، وحامل لواء الإبداع والاكتشاف، ولكن تظل الغاية الأجل هي الوصول إلى العقل المستنير؛ ذاك العقل الجامع الذي يمزج بين وعي الظاهر وعمق الباطن، ثم يصل الجميع بمنهاج التجلي الإلهي، هذا العقل لا يكتفي بالتحليل المعرفي، بل يزداد بكل واقعة إيمانا وارتقاء، ويرى في اختلاف الليل والنهار وفي أحوال الخلق آيات تكلم أولي الألباب، وقد قال سيدنا الحسن البصري: "ما استودع الله أحدا عقلا إلا استنقذه به يوما ما".
وقد أحسن الشاعر حين قال:
يزين الفتى في الناس صحة عقله *** وإن كان محظورا عليه مكاسبه
يشين الفتى في الناس قلة عقله *** وإن كرمت أعراقه ومناسبه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه *** على العقل يجري علمه وتجاربه
سادتي الكرام: إن تأسيس العقل المستنير صاحب التفكير الإيجابي يقوم على منهاج متدرج ومحكم، قائم على تأصيل اليقين عبر الاستمداد الدائم من معين القوة الإلهية، والتحصن بالاستعاذة الصادقة من داء العجز ومهلكة الكسل، والارتقاء إلى مرحلة الحراسة العقلية، ممارسا المراقبة والتنقية الذهنية المستمرة لاجتثاث كل فكر هدام أو خاطر مثبط، مفعلا الإرادة الإيجابية التي تصان وتغذى ببركة الاستعانة بالله تعالى، محافظا على السكينة الداخلية عبر الضبط المنهجي والحكيم للانفعالات، مكللا هذا بقبلة التفاؤل المشرقة، ودوام المناجاة الذهنية الإيجابية، والصحبة الإيجابية الصالحة، والموارد المعرفية الفاضلة، فلتكن هذه هي منهجيتنا في بناء العقل المستنير مستذكرين دوما نبل الغاية في بذل الجهد العقلي كما قال سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أجتهد برأيي ولا آلو".
*********
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
فإن ظاهرة التشكيك المفرط، والحيرة المستمرة، ونشر روح التشاؤم، ليست مجرد عوارض نفسية عابرة، بل هي في حقيقتها آفات كبرى تفتك بالبنية التحتية للأفراد والمجتمعات، فتجفف منابع الأمل وتحبط الإرادة البناءة، وهي روح سلبية دخيلة تتسلل إلى النفوس، فتنظر إلى الحياة من خلال عدسة الإحباط، فتضخم العقبات، وتهمل الفرص، وتولد النظرة المظلمة، وتبرز التفكير السلبي المتأثر بالبيئة المحبطة والمقارنات المدمرة، وتضعف الاعتماد الصادق على الخالق سبحانه، إذ قال تعالى: ﴿ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾.
أيها النبلاء: إن العلاج الناجح لهذا الداء يكمن في العودة الصادقة إلى اليقين بالله، فهي المنزلة الروحية الرفيعة التي تجعل الإيمان في النفس ثابتا لا يتزعزع، والنور الذي يشرق في الصدر فيطرد كل شبهة، والمعنى الذي ارتفعت به منزلة المؤمنين، فبقدر ما يستقر هذا اليقين في القلوب، بقدر ما تتحصن النفس، وتتفتح لها بصائر الرؤية الصحيحة، ليصبح المؤمن من أصحاب البصيرة المستنيرة، فيترسخ الفأل الحسن والتفاؤل، الذي هو حسن ظن بالله، وإحسان الأدب مع الأقدار، والاستمرار في العمل، وعدم الاستسلام للردع التشاؤمي، ولزوم الأذكار النبوية الشريفة التي تحصن النفس، فيستعيذ العبد من كل ما يعطل سعيه ويثبط همته، كما في قول الجناب المعظم صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات».
فاللهم نور قلوبنا بمعرفتك، واملأ عقولنا بما فيه خير البلاد والعباد، وبصرنا بنور المعرفة اليقينية، واحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء، إنك جواد كريم. آمين.