في كثير من القضايا الجنائية التي شغلت الرأي العام، لم تكن الكاميرات حاضرة، ولم تترك الجريمة خلفها أدلة مادية كافية، لكن كانت هناك ذاكرة شاهد، أو ملامح عابرة انطبعت في ذهن ضحية.
هنا يظهر دور الرسام الجنائي، ذلك الجندي المجهول الذي يعمل في صمت، محولًا الكلمات المرتبكة والانفعالات الإنسانية إلى صورة تقريبية قد تكون الخيط الأول للوصول إلى المتهم الهارب.
عن هذه المهنة الدقيقة، وتاريخها في مصر، وتحولها من عمل فني يعتمد على الريشة إلى مجال مدعوم بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، كان لنا هذا الحوار مع اللواء رفعت عبد الحميد، الخبير الأمني.
في البداية، كيف يمكن تعريف الرسام الجنائي ودوره في منظومة العدالة؟
الرسام الجنائي هو أحد أهم العناصر المساندة للعمل الأمني، ويُعد حلقة وصل بين الشاهد أو الضحية وبين أجهزة البحث الجنائي.
دوره الأساسي يتمثل في ترجمة الأوصاف التي يدلي بها الشهود عن الجاني أو الشخص المجهول إلى صورة تقريبية تعكس الملامح الأقرب للواقع.
هذه الصورة لا تُعد دليل إدانة، لكنها أداة استرشادية بالغة الأهمية تساعد في توجيه التحقيقات، وتضييق نطاق الاشتباه، والوصول إلى المتهمين الهاربين، خاصة في الجرائم التي لا تتوافر فيها وسائل توثيق حديثة.
متى بدأ الاعتماد على الرسام الجنائي في مصر؟
فكرة الرسام الجنائي ليست حديثة، بل تعود جذورها إلى بدايات القرن العشرين، ومع تطور العمل الشرطي بدأت أجهزة الأمن في الاستعانة بعناصر تمتلك موهبة الرسم إلى جانب الخبرة الأمنية. في البداية كان الأمر يعتمد على الاجتهاد الشخصي والموهبة، ثم تطور تدريجيًا ليصبح جزءًا من العمل المنظم داخل بعض الإدارات، خاصة مع ازدياد الحاجة إلى وسائل غير تقليدية لكشف الجرائم المعقدة.
ومع مرور الوقت، أصبحت هناك قناعة بأن الرسم الجنائي علم قائم بذاته، يحتاج إلى تدريب وتأهيل، وليس مجرد موهبة فنية.
هل حقق الرسام الجنائي نجاحات ملموسة في كشف الجرائم الكبرى؟
نعم، وبشهادة العديد من القضايا التي حُلت بفضل الرسومات التقريبية، في جرائم القتل والسرقة بالإكراه والاعتداءات التي يرتكبها مجهولون، كان للرسام الجنائي دور حاسم.
في بعض القضايا، تم التعرف على المتهمين بعد نشر الرسومات في وسائل الإعلام أو تداولها بين الأكمنة والدوريات.
الصورة التقريبية قد تُحرّك ذاكرة شخص آخر، أو تدفع أحد المواطنين للإدلاء بمعلومة، وهو ما حدث بالفعل في قضايا معروفة أسفرت عن ضبط الجناة بعد سنوات من الهروب.
ما هي أشهر القضايا التي كشفها الرسام الجنائي؟
الرسام الجنائي كشف عدد كبير من القضايا الجنائية لكن أطرافها ليس مشهورين، لكن من ضمن القضايا الشهيرة قضية داغر في المهندسين حيث ساهم الرسام الجنائي في كشف هوية المتهمين بعدما أكد شهود العيان مشاهدة أشخاصا برفقة الضحية قبل مقتله وساهم في ضبط الجاني، فضلا عن مساهمته في تحديد هوية السفاحين وعتادة الاجرام، وفي عدد من الدول العربية، ساهم الرسم الجنائي في كشف قضايا خطف وسرقة وقتل، خصوصًا قبل انتشار كاميرات المراقبة، حيث كان الاعتماد الأساسي على شهادة شهود العيان، فضلا عن كشف جرائم كبرى عالميا، ففي واحدة من أطول وأعقد القضايا الجنائية في تاريخ أمريكا، ساعدت الرسومات الجنائية المستندة إلى إفادات الشهود في تضييق دائرة الاشتباه حول القاتل المتسلسل المعروف إعلاميًا بـ«قاتل النهر الأخضر» ورغم أن القضية استغرقت سنوات، فإن الرسومات كانت من أوائل الأدلة التي ربطت بين الجرائم المتعددة، واستخدمت الشرطة الإسبانية الرسومات الجنائية لتحديد ملامح أشخاص شوهدوا قرب مواقع مرتبطة بالهجمات ونُشرت الرسومات على نطاق واسع، ما أسهم في تلقي بلاغات من المواطنين دعمت التحقيقات، واعتمدت الشرطة البريطانية على الرسام الجنائي لإنتاج عدة رسومات لأشخاص شوهدوا في محيط حادث اختطاف الطفلة مادلين ماكان وعلى الرغم من تعقيد القضية، ظلت الرسومات أداة أساسية لإبقاء التحقيق حيًا في الوعي العام.
كيف يتمكن الرسام الجنائي من تحويل أوصاف الشهود إلى صورة قريبة من الحقيقة؟
هذه من أدق مراحل العمل، الرسام الجنائي لا يرسم فقط، بل يستمع، ويحلل، ويقرأ لغة الجسد والانفعالات، الشهود غالبًا يكونون تحت ضغط نفسي، وقد تختلط عليهم التفاصيل.
هنا يأتي دور الرسام في طرح أسئلة دقيقة، ومقارنة الأوصاف، والبدء برسم ملامح عامة ثم الانتقال للتفاصيل مثل شكل الأنف، العينين، الفك، الشعر، والعلامات المميزة.
العملية قد تستغرق ساعات، وأحيانًا أكثر من جلسة واحدة، حتى يصل الرسام إلى صورة يوافق عليها الشاهد باعتبارها الأقرب لما رآه.
ما الأدوات التي يعتمد عليها الرسام الجنائي؟
في السابق كانت الأدوات بسيطة، قلم وورق وممحاة، لكن مع التطور أصبحت هناك أدوات أكثر تقدمًا، اليوم يستخدم الرسام الجنائي برامج متخصصة تتيح له اختيار ملامح مختلفة وتجميعها رقميًا، مع إمكانية التعديل السريع بناءً على ملاحظات الشهود.
ومع ذلك، لا تزال مهارة الرسم اليدوي مهمة، لأنها تعكس إحساس الفنان وتفاعله المباشر مع الشاهد، وهو ما لا يمكن للآلة وحدها أن توفره.
ماذا عن تدريب الرسام الجنائي؟
تدريب الرسام الجنائي يجب أن يكون متعدد الجوانب، الموهبة الفنية وحدها لا تكفي، يجب أن يحصل على تدريب في علم النفس الجنائي، وكيفية التعامل مع الشهود، وفهم تأثير الصدمة على الذاكرة.
كما يحتاج إلى معرفة بتشريح الوجه، والفروق بين الملامح البشرية، إلى جانب التدريب على استخدام التقنيات الحديثة.
في الدول المتقدمة، يخضع الرسام الجنائي لدورات مستمرة لمواكبة التطورات، وهذا ما يجب التركيز عليه دائمًا.
كيف ترى تطوير مهنة الرسام الجنائي في المرحلة المقبلة؟
التطوير أصبح ضرورة، وليس رفاهية، يجب دمج الخبرة البشرية بالتكنولوجيا الحديثة، وتحديث أساليب التدريب، والاستفادة من قواعد البيانات الضخمة للملامح والصور.
كما أن التعاون بين الأجهزة الأمنية والمؤسسات الأكاديمية يمكن أن يخلق جيلًا جديدًا من الرسامين الجنائيين القادرين على العمل في بيئة رقمية متطورة.
هل أسهمت التقنيات الحديثة في تسريع تحديد أوصاف المتهمين؟
بالتأكيد، التقنيات الحديثة أحدثت طفرة كبيرة، اليوم يمكن تعديل الصورة في دقائق، وربطها ببرامج التعرف على الوجوه، ومقارنتها بآلاف الصور في وقت قياسي.
هذا لم يكن متاحًا في الماضي، التكنولوجيا قللت الزمن، ورفعت نسبة الدقة، وساعدت في تتبع المتهمين عبر أكثر من وسيلة، سواء من خلال الكاميرات أو قواعد البيانات.
هناك من يرى أن الذكاء الاصطناعي قد يتفوق على الرسام الجنائي، ما رأيك؟
الذكاء الاصطناعي أداة قوية جدًا، لكنه لا يلغي دور الإنسان، صحيح أنه قادر على تحليل البيانات بسرعة مذهلة، وربط الأوصاف بصور محتملة، لكن الرسام الجنائي يمتلك عنصر الفهم الإنساني، والتعامل مع المشاعر، واستخلاص التفاصيل غير المنطوقة.
الأفضل هو التكامل بين الاثنين، حيث يضع الإنسان الأساس، ويأتي الذكاء الاصطناعي ليعزز النتائج.
كيف تصف التحول من الرسام الجنائي التقليدي إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي؟
نحن أمام تطور طبيعي فرضته طبيعة العصر، من ريشة فنان ترسم على الورق، إلى خوارزميات قادرة على تحليل ملايين الصور في ثوانٍ.
هذه الرحلة تعكس تطور الفكر الأمني نفسه، الذي لم يعد يعتمد على وسيلة واحدة، بل على منظومة متكاملة.
الهدف في النهاية واحد، وهو الوصول إلى الحقيقة وضبط المتهمين الهاربين بأسرع وقت وأدق وسيلة ممكنة.
كلمة أخيرة عن مستقبل هذا المجال؟
مستقبل الرسام الجنائي واعد، طالما تم الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا معًا.
الجرائم تتطور، وبالتالي يجب أن تتطور أدوات مكافحتها، الرسام الجنائي سيظل عنصرًا مهمًا، سواء حمل قلمًا أو استخدم شاشة رقمية، لأنه في النهاية يترجم الذاكرة الإنسانية إلى صورة تقود للعدالة.
.jpg)
اللواء رفعت عبد الحميد يكشف في حوار لليوم السابع (1)
.jpg)
اللواء رفعت عبد الحميد يكشف في حوار لليوم السابع (2)
.jpg)
اللواء رفعت عبد الحميد يكشف في حوار لليوم السابع (3)
.jpg)
اللواء رفعت عبد الحميد يكشف في حوار لليوم السابع (4)