كان الشاعر أحمد رامى حين يكتب شعرا غنائيا يعجبه لا يجد صوتا أبدع ولا أقدر من أم كلثوم يغنيه، حسبما يؤكد فى حوار أجرته الكاتبة الصحفية إيريس نظمى معه، ونشرته مجلة «آخر ساعة» عدد 1626، الصادر فى 22 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1965، وترى «نظمى»، أن «رامى» حدث كبير فى تاريخ الأغنية العربية، فهو الذى أحدث التطوير الكبير فى معانيها العاطفية، وصياغتها الرقيقة، وجذبها من هوة الكلام المبتذل ليسمو بمعانيها.
أثار الحوار عدة قضايا كرأيه فى الأغنية الوطنية التى كانت تعيش تألقها وقتئذ، وقال عنها: كانت الأغنية فى حياتنا مكبوتة، كانت تلميحا أكثر منها تصريحا، فأيام الاحتلال مثلا كان عبده الحامولى يغنى بشكل مستور حتى لا يضطهده الإنجليز، كان يقول: «عشنا وشوفنا سنين/ ومن عاش يشوف العجب/ شربنا الضنا والأنين/ جعلناه بروحنا طرب/ غيرنا يملك وصال/ واحنا نصيبنا خيال/ كده العدل يا منصفين».
ويضيف: «عندما جاءت ثورة 1919 انطلق الخاطر، وبدأ الفنانون يقدمون الأغانى الوطنية بصراحة، وانتهزوا الفرصة فى المسرحيات وخصوصا ما كان يقدمه سيد درويش وعلى الكسار، وكان هناك مؤلفون مجهولون، تنتشر أغانيهم بشكل هائل وبسرعة فائقة، وفى نفس الوقت قدم سيد درويش أغانيه على ألسنة الطوائف، وكانت أغانيه عن البنائين والحرفيين لمعالجة مشاكلهم، وكثيرا يضع هتاف فى آخر الأغنية كنوع من التنفيس عن الثورة التى فى صدره، وقد وضع الشاعر على الغاياتى ديوان شعر عن الوطنيات، والنتيجة أنهم سجنوه، أما الآن فى ظل ثورتنا انطلق المؤلف والملحن وفتحت أبواب الكلام فى كل نواحى الثورة من حولنا، وتعددت أغراض الأغنية الوطنية فطرقت ميادين لم تطرقها من قبل».
وردا على اتهامه بأنه يردد معانى الهجر والوصل فى كل أغانيه، قال: «العاطفة بين آدم وحواء منذ الأزل هى نفس العاطفة، لم ولن تتغير، إنما تتغير قوالبها، ولا أعتقد أن هناك شعرا قديما وشعرا جديدا إلا فيما يتعلق بالقوالب، والغزل قديما كان يبدأ بالبكاء على الديار المهجورة، وهذه أشياء تخلصنا منها، والتطور المهم حدث فى مذاق التصوير وحسن التعبير وهذا أساس الشعر، وامتازت الصياغة الحديثة بالأسلوب الرقيق والألفاظ الفنية والتعبيرات التى يمكن أن يحفظها كل الناس».
وعما إذا كانت الأغنية تتطور إلى الأحسن، قال: «أعيب على المؤلفين أنهم لا يبحثون عن المعانى والصور الجديدة، وفى كثير من الأحيان يقلدون، وإذا نجحت أغنية فإنهم يتبادلون المعنى من جديد ويضعونه فى صورة أخرى، لكن أى حاجة كويسة لا تموت، والأمور مرهونة بأوقاتها، فأنا أول ما طلعت شعرى هوجمت، والشعب المصرى ذوقه حساس بشكل غريب، ولا يمكن أن يتفق ذوقه إلا على شىء يستحق الإعجاب، ولا يمكن أن تتفق الأذواق على شىء إلا إذا كانت فى سبيل الحق والواجب».
وحول اقتصاره على التأليف لأم كلثوم، قال: «أنا قليل الإنتاج، وحين أنظم قطعة تعجبنى لا أجد صوتا أبدع ولا أصدق إلا أم كلثوم، وهى ظاهرة لن تتكرر، والقراءة لها دخل كثير فى حياتها، قرأنا معا كتاب الأغانى، وقد هئ لأم كلثوم ما لم تهيأ لمغنى قبلها من تطور، تطور اليخت نفسه، فمن كان زمان يغنى بأربعة وعشرين عازفا؟، وأم كلثوم صاحبت الأغنية من غير ميكروفون ثم فى الميكروفون والاستريو فونيك، والإذاعة والتليفزيون، بعد أن أصبح العلم يخدم الفن، وبعد 500 عام سيدوى صوت أم كلثوم، إنها تبكى وهى تغنى، وتنزل دموعها على فمها فتشربها وترتعش وتصاب بالخجل عندما تجد نفسها فجأة مغمضة العينين».
وعن طريقتها فى الغناء يكشف رامى: «فى مرة كنت أجلس فى مكانى فى الصف الأول لأستمع إلى أم كلثوم، وجدتها تغنى بطريقة ممتعة ولا تنظر إلى الجالسين، وإنما ترمى ببصرها فى آخر الصالة، وفى الاستراحة ذهبت لأحييها، وسألتها لمن كانت تغنى بهذه الدرجة من الإبداع، فأجابت بأنها تغنى وتبدع وتكرر مقاطعها لفقيه أعمى يجلس فى آخر الصف، فأم كلثوم أحيانا تغنى لشخص واحد فقط فى المسرح وتندمج وتغنى له، فالمغنى إذا وجد من يسمع جيدا يبدع، أم كلثوم تستطيع أن تجعل الميكروفون يطق من قوة صوتها ولهذا تبعد عنه إذا علت طبقة صوتها، وهى تستطيع أن توقف الأوتار، إن صوتها يجعل الموسيقيين يقفون».
ويكشف رامى، حالته أثناء كتابته أغنية لأم كلثوم، قائلا: «أنا أبكى أحيانا وأنا مندمج، ويصاب أولادى بالذهول، ومرة كنت أبكى بصوت عال ودخلت والدتى علىّ فنظرت بإشفاق، وقالت لى: ربنا يتوب عليك يا ابنى، وأنا لا أكتب، وإنما أعيد الكلام فى خاطرى»، وعما إذا كان يعيش حالة الغزل والحب أثناء كتابته عن هذه الحالة، قال: «إن لم يكن هناك دافع للغزل فلا يمكن للشاعر أن ينجح أبدا، والشعر اللى طالع منى لازم أعيشه».