وسط إيقاعٍ هادئ تصنعه أيادٍ ماهرة خطّ الزمن عليها خبرته، تبدأ الحكاية من هنا.. ورشة يتقاسم فيها الحرفيون الأدوار كما لو كانوا فريقًا واحدًا؛ لكلٍ منهم لمسته وخبرته، هذا يجهّز المادة الخام، وذاك يشكّل بعنايةٍ تليق بالحرفة، وآخر يصقل ويضع اللمسة الأخيرة.
بوجوهٍ صامتة تحكى سنوات من العمل والخبرة، وأعين متعبة لكنها صامدة، وأنامل خشنة تعرف طريقها على النحاس كما لو كانت تقرأ لغة قديمة، يتجلى انسجامهم مع المكان، وتصبح كل حركة محسوبة بدقة، لتتشكل القطع النحاسية أمام العين بأعلى درجات الإتقان.
ورشة نحاس فى منطقة الجمالية
حتى يكتمل المشهد، تتحول القطع من النحاس الخام إلى صوانٍ وكنكات وسبرتايات متقنة الصنع، تحمل روح الصنعة وقيمة الحرفة. هذه المنتجات ليست مجرد أدوات، بل شهادة حية على مهارة الصانع، وروح الورشة، وتاريخ الدرب الأحمر الذي ما زال ينبض بأصالة الحرفة وجمالها الخالد، وروح المكان الذي يأسر كل من يخطو إليه، ويجعلك تشعر وكأنك جزء من هذا الإيقاع، جزء من الحرفة التي صنعت التاريخ بين أيادى هؤلاء الحرفيين.

أحمد يسري صاحب ورشة تصنيع منتجات نحاسية
وبينما كان الحرفيون منسجمين فى حركة العمل المتناغمة، وقف الشاب أحمد يسرى صاحب الـ27 عامًا ليستعيد بداياته مع الحرفة التى ورثها عن والده: "تخرجت من كلية التجارة جامعة حلوان، وورثت مهنة صناعة منتجات النحاس عن والدى وتعلمتها حبًا فيها، أول شيء علمنى إياه والدى فى المكان هو الإدارة، وبعدها بدأت أتعلم الصنعة نفسها وأعمل بيدى فى كل مراحل التصنيع".
وبين آلات المخرطة وقرص النحاس الذى يبدأ رحلته من الخام إلى التحفة الفنية، وصف أحمد مراحل التصنيع: "التصنيع يمر بعدة مراحل؛ يبدأ بالمخرطة والتشكيل، ثم اللحام، ومن بعدها مرحلة التشطيب والتلميع لتظهر القطعة فى صورتها النهائية، كل منتج يشترك فى تصنيعه عدد من الحرفيين، كل واحد يتخصص فى مرحلة حتى يظهر المنتج فى صورته النهائية، وكل عامل يكمل الآخر".
على الطاولات المزدحمة بالقطع النحاسية وأدوات التشكيل، تتحرك الأيادى الخبيرة بدقة، كل لمسة فرشاة، كل سنفرة، كل ثنية للنحاس تحمل خبرة سنوات، وترسم لوحة من الحركة والصنعة أمام أعين من يشاهدها: "يبدأ عملنا بإدخال قرص النحاس على المخرطة، ونشكله حسب الشكل المطلوب، ثم نجرى اللحام من الداخل والخارج، ثم نعيد القطعة إلى المخرطة، تليها معالجة بالفرشاة، عمل الفتحات الدقيقة، السنفرة والتلميع، وأخيرًا اللحام والتقفيل النهائي".
وفى زاوية أخرى، حيث ينعكس الضوء على القطع المصقولة وتتلألأ ألوان النحاس، تحدث أحمد عن المنتجات وحرفيتها، كل صينية وكنكة تعكس براعة الصانع، وروح الورشة، وكل قطعة تبدو وكأنها تحكى قصة نفسها، تشد الانتباه وتثير الإعجاب، وكأن كل قطعة تحكى قصة الورشة: "ننتج تحفًا وأنتيكات من السبرتاية والكنكة وطقم القهوة والمباخر والشوايات، وكل ما يتعلق بالنحاس. هذه الحرفة اليدوية القديمة لها رونقها الخاص وطبيعتها المميزة، ومن هنا تصبح منتجاتنا تحفًا فنية، وتسافر إلى دول عديدة، والسياح ينبهرون بحرفيتها وإتقانها لأنها غير موجودة فى أى مكان آخر".
وفى هدوء الورشة بعد يوم طويل، ومع كل حركة دقيقة للحرفيين الذين يضعون روحهم فى التفاصيل، يظهر التحدى والجمال معًا؛ صعوبة المهنة، عمق الخبرة، وروعة الحفاظ على التراث مع تطويره للأجيال الجديدة: "العمل صعب، والعمالة يجب أن تكون محترفة، لأن الحرفة ليست سهلة، ولا يُورّثها أى شخص، وكل قطعة نصنعّها تحمل جزءًا من خبرتنا، وجمالها فى تطويرها؛ فهى حرفة قديمة نعمل على تطويرها لتواكب الأجيال الحديثة، مع الحفاظ على الشكل الأصلى للكنكة والسبرتاية ارتباطًا بتراثنا، لتظل الحرفة صامدة ومتواجدة فى كل بيت مصري".
وأمام ماكينات التشكيل والخرط، حيث يدور قرص النحاس بلا توقف، ويتردد صدى المعدن فى أرجاء الورشة، يقف رجلٌ بدأت علاقته بالحرفة طفلًا، قبل أن تتحول مع الوقت إلى عمرٍ كامل من الخبرة والعمل.
يقول ممدوح فاروق: "أنا مولع بمهنة النحاس، وهى مهنة متوارثة فى عائلتى أبًا عن جد، نشأت معها وكبرت فى أحضانها، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتى".
في الجمالية، حيث لا تُصنع المعادن فحسب، بل يُصاغ التاريخ ذاته، تمتد جذور الحرفة فى الأزقة والورش، وتنعكس آثارها على معالم مصر الدينية والتاريخية: "نحن من أبناء الجمالية، وُلدنا ونشأنا فيها، وهى أصل صناعة المعادن في مصر، وإذا تأملنا الأبواب النحاسية فى المساجد التاريخية، مثل مسجدي السلطان حسن والحسين، سنجد أنها صُنعت هنا، بأيد الحرفيين المصريين، فأساس هذه الصناعة وجذورها تعود إلى الجمالية".
تشكيل النحاس لصناعة الكنكة والسبرتاية
ومع تطور الزمن وتغيّر احتياجات السوق، لم تتخلَّ الورش عن جوهر الحرفة، بل واصلت العمل فى خطوطها الأصيلة، مع الحفاظ على تنوع الإنتاج ودقته: "نحن اليوم متخصصون فى صناعة السبرتاية والكنكة، مع الالتزام بنفس روح الحرفة القديمة وجودتها، ولكل حرفى موقعه الذى لا يكتمل العمل بدونه، فالمراحل تتتابع بدقة، ويبدأ التشكيل الحقيقى من الخطوة الأولى، فدورى فى هذه الورشة هو المرحلة الأولى، حيث أعمل خراط بلص، وهى مرحلة أساسية يقوم عليها ما يليها من مراحل التصنيع".
غير أن الحرفة لا تخلو من التحديات، فالمادة الخام لم تعد كما كانت، ومعها تتغير طبيعة العمل وتزداد الحاجة إلى الخبرة والصبر: "النحاس لم يعد يأتى كما فى السابق؛ قديمًا كان موحد الجودة، أما اليوم فأحيانًا يكون جزء منه طريًا وآخر صلبًا، وهذه من الصعوبات التى نواجهها. ومع ذلك، نتعامل مع هذه التحديات ونتجاوزها بالخبرة".
مراحل تشكيل خامة النحاس في الورشة
وعندما يختلط الشغف بالخبرة، لا تعود الحرفة مجرد وسيلة للرزق، بل تتحول إلى هواية، وإلى رابط عميق بين الإنسان وما يصنعه بيديه: "هذه المهنة هى روحى وحياتى، أنا مولع بها، ولا أستطيع أن أتصور نفسى بعيدًا عنها".
خالد يوسف أحد صانعي منتجات النحاس في الجمالية
وعلى مقعدٍ خشبيٍ قديم، وبجوار نار اللحام التي لم تنطفئ منذ عقود، يجلس رجلٌ يحمل في ملامحه عمر الحرفة، وكأن السنين تركت آثارها على يديه كما تركتها على النحاس.. يقول خالد يوسف، أحد الحرفيين العاملين في صناعة النحاس: "بدأت عملي في هذه المهنة منذ طفولتى، إذ التحقت بالعمل مع والدي – رحمه الله – وأنا في الثامنة من عمرى، بدافع الحب والشغف بهذه الحرفة، ومع بلوغي الثالثة عشرة، أصبحت أعمل كصانعٍ قادر على الإنتاج، وهو ما كان يمنحني شعورًا كبيرًا بالفرح والإنجاز، خاصة أنني تعلمت بسرعة لأنني كنت محبًا لما أعمله".
ومع انتقال الأيادى بين الأدوات، وتنوّع المهام داخل الورشة، تتشكل الخبرة عبر سنوات طويلة، إلى أن يجد كل حرفي مجاله الذي يتقنه ويُعرف به: "عملت في مجالات متعددة داخل صناعة النحاس، وشاركت فى تصنيع السبرتاية وتحف خان الخليلى وغيرها من المنتجات النحاسية".
مراحل تصنيع السبرتاية النحاس
فى المراحل الأولى من التصنيع، حيث تُبنى القطعة من الداخل قبل أن يظهر شكلها الخارجى، يبدأ العمل الحقيقى الذى لا يحتمل الخطأ، لأن الجودة تُختبر فى التفاصيل الخفية: "تبدأ مهمتى وهى مرحلة دقيقة ومهمة فى دورة الإنتاج، بتجهيز خزان السبرتاية، حيث تكون القطعة فى بدايتها فارغة، فأقوم بتجهيز النحاس وتركيبه ولحامه بعناية ليكوّن الخزان الداخلى، ثم تُجرى له اختبارات دقيقة للتأكد من عدم وجود أى تسريب، قبل الانتقال إلى المراحل التالية من التصنيع".
لا تكتمل أى قطعة داخل الورشة بيدٍ واحدة، بل تنتقل بين الحرفيين فى مسارٍ دقيق، تُسلَّم فيه كل مرحلة إلى من يليها، فى عمل جماعى تتكامل فيه الخبرات، يتابع خالد: "بعد ذلك، تنتقل القطعة بينى وبين الفورشجى، حيث أتولى لحام الأرجل، وهى الحامل الذى توضع عليه الكنكة، ثم تعود القطعة مرة أخرى للتشطيب النهائى، قبل أن يتولى الفورشجى تلميعها وإبراز لون النحاس الطبيعى، لتخرج فى صورتها النهائية المتقنة".
ومع اكتمال التشكيل، تأتى اللمسة الأخيرة التى تمنح القطعة شخصيتها الخاصة، وتفتح المجال لاختلاف الأذواق وتنوّع الاختيارات: "تتعدد أنواع النقش المستخدمة فى تزيين المنتجات النحاسية، من بينها نقش "الباكلاشيه" الذى يعتمد على أشكال وحروف متنوعة، ونقش "الروبسيه" الذى يُنفذ يدويًا باستخدام القلم ويعتمد على الزخارف النباتية، إضافة إلى النقش بالليزر، وهو أسلوب حديث أُضيف إلى المهنة فى السنوات الأخيرة، ليختار كل زبون ما يتناسب مع ذوقه الخاص".
ومع كل قطعة تكتمل، لا يُنجز الحرفى عملًا فحسب، بل يستعيد مسيرة عمرٍ بُنيت من العرق والصبر، وتحولت فيها المهنة إلى حياة كاملة: "هذه الحرفة كانت ولا تزال مصدر رزقى الأساسى، ومنها استطعت أن أبنى حياتى وأوفر لأسرتى حياة كريمة، وهى مهنة متوارثة فى عائلتى عن والدى وجدى، كما أن نشأتى فى منطقة الجمالية، التى تُعد من أقدم معاقل الصناعات اليدوية، كان لها أثر كبير فى ارتباطى بهذه الحرفة".
وعندما تختلط السنوات بالخبرة، يصبح العمل أكثر من مجرد مهنة، بل جزءًا من الهوية، ورفيقًا دائمًا لا يغادر صاحبه: "أشعر بالسعادة والرضا أثناء عملى، لأننى لا أتعامل مع هذه المهنة بوصفها وظيفة، بل باعتبارها حياتى كلها، فقد بدأت العمل وأنا فى الثامنة من عمرى، وها أنا اليوم، وقد بلغت الخامسة والستين، ما زلت أمارس الحرفة نفسها".
وليد حسين أحد صانعي منتجات النحاس في الجمالية
هنا، في قلب المكان الذي تعلّم فيه الحرفيون أن الصنعة ميراث، يجلس وليد حسين أمام فرشاته، لا يتعامل مع المعدن كخامٍ صامت، بل كحكاية تحتاج إلى من يعيد لها صوتها وبريقها.
يبدأ حديثه عن رحلة امتدت لأربعة عقود داخل عالم النحاس. ويقول: "أنا من شارع المعز، وأعمل في هذه المهنة منذ أربعين عامًا، حرفة متوارثة في عائلتنا أبًا عن جد، وكلنا في المجال، معظمنا تربّى على هذه الحرفة منذ الصغر، مع العلم أن الصنايعية العاملون فيها الآن أصبحوا قليلين جدًا.. من صغري وأنا أحب الصنعة، فتعلمت مرحلة الفرشاة، وهي مرحلة تسبق التشطيب، وفيها أستقبل النحاس وهو داكن، لأعيد إليه لمعانه من جديد".
تلميع وتشطيب منتج نحاسي
بين أدوات بسيطة وحركات دقيقة تحفظها الذاكرة قبل اليد، تمر القطعة في رحلة طويلة قبل أن تخرج مكتملة: "القطعة تُشطب عندي، ثم تذهب إلى عم خالد، وتعود إليّ مرة أخرى جاهزة، لتدخل مرحلة التشطيبات النهائية.. هذه المهنة في حقيقتها فن، فكل قطعة لها قيمتها الخاصة".
منتج نحاسي في صورته النهائية