عندما كانت السماء هى «الأرصاد».. «أربعينية الشتاء» دليل الأجداد للسيطرة على الصقيع.. هكذا قسم المصريون أيام الشتاء إلى «كوالح» و «صوالح» لتأمين محاصيلهم.. وحكاية «قرة العجوز» الأخيرة

الخميس، 11 ديسمبر 2025 07:00 م
عندما كانت السماء هى «الأرصاد».. «أربعينية الشتاء» دليل الأجداد للسيطرة على الصقيع.. هكذا قسم المصريون أيام الشتاء إلى «كوالح» و «صوالح» لتأمين محاصيلهم.. وحكاية «قرة العجوز» الأخيرة سقوط الأمطار

كتبت أسماء نصار

في زمن تسيطر فيه النماذج المناخية المعقدة وتوقعات الأرصاد الجوية الحديثة، وتغزو شاشات هواتفنا تطبيقات تخبرنا بدقة عن درجة الحرارة وسرعة الرياح، تظل الحكمة القديمة لأجدادنا في مصر باقية كدليل زراعي ومناخي محكم لا يزال يعتمد عليه المزارعين في قرى مصر.

هذا التقويم الذى وضعه أجدادنا القدماء يخبرنا متى تبلغ ذروة البرد ومتى يبدأ الانحسار، فلا يزال المصريون يستحضرون مصطلح "أربعينية الشتاء"، وهو تقسيم زمني دقيق ورثناه عن تقاليد مصر القديمة، يكشف عن معرفة عميقة بدورة الفصول وتأثيرها المباشر على خصوبة الأرض والحياة الريفية.

أربعينية الشتاء ليست مجرد أربعين يوماً عابراً، بل هي خريطة فلكية وزراعية متكاملة، تؤكد أن المصري القديم لم يكن يكتفي بمراقبة السماء فحسب، بل كان قادراً على صياغة نظام زمني عملي يخدم أولويته القصوى لضمان المحصول.

40 ليلة من الصقيع

أوضح الدكتور محمد على فهيم رئيس مركز معلومات المناخ بوزارة الزراعة واستصلاح الاراضى أن الأربعينية تمتد فعليًا لـ 40 ليلة، تبدأ وفقاً للتقويم الميلادي من 25 ديسمبر وتستمر حتى 2 فبراير، لكن العبقرية تكمن في أن هذا التقسيم ليس كتلة واحدة، بل هو خريطة زمنية مفصلة مقسمة إلى أربعة أقسام متساوية "عشر ليالٍ لكل قسم"، يحمل كل منها دلالة مناخية وزراعية مختلفة وتترافق معها طقوس وحكم شعبية.

العشرون ليلة البيض من (25 ديسمبر – 13 يناير)

تبدأ الرحلة بـ "العشرون ليلة البيض"، والتي تمثل مرحلة الإعداد للبرد الأقصى، وهي فترة تتسم بالتقلب والبرد الأولي غير المستقر:

الكوالح

الليالي العشر الأولى، سميت بذلك ربما لتأثيرها على النباتات التي تبدأ ملامحها بالـ "كلوح" أو الذبول الخفيف بسبب بداية انخفاض درجات الحرارة، يتم فيها اتخاذ الاحتياطات الشتوية اللازمة.

الطوالح (4 يناير – 13 يناير): وهي المرحلة الثانية التي يبدأ فيها البرد بالاستقرار التدريجي ليمهد لذروة الشتاء، و تبدأ بوادر ظهور النباتات (الطوالع) بالضعف استعداداً لمرحلة السكون.

العشرين ليلة السود

يأتي التحول الأهم والأكثر برودة مع "العشرين ليلة السود" (14 يناير – 2 فبراير)، وهي الفترة التي حظيت بأهمية قصوى لدى المزارعين القدماء، لكونها المفتاح لنجاح الموسم الزراعي. وتُقسم كالتالي:

الموالح (14 يناير – 23 يناير)

تبدأ فيها درجات الحرارة بالانخفاض الحاد والملحوظ. سُميت بذلك ربما لأنها تكون فترة قاسية "مُلحة" على الإنسان والنبات.

الصوالح (24 يناير – 2 فبراير)

هذه هي الذروة الحقيقية للشتاء، في هذه الليالي العشر، يبلغ الصقيع أشده، وهنا يكمن السر الزراعي العظيم، وهو ما لخصه الأجداد بعبارة خالدة "في الليالي السود يفتح كل عود"، و هذه المقولة تشير إلى أن البرد القارص لهذه الفترة ليس نقمة، بل هو ضرورة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها حيث يساعد الصقيع الشديد في قتل الآفات والحشرات الضارة التي قد تؤذي الجذور لاحقاً، و يعمل البرد على تقوية وتثبيت جذور البذور في أعماق التربة، استعداداً للانطلاق بقوة، كما أن البرودة الشديدة تعمل كمفتاح حيوي يحفز البراعم على التكوين قبل أن يكسر البرد شدته.

و بالنسبة للمجتمع الزراعي، كانت ليالي "الصوالح" هي بشارة الخير وبداية مرحلة الإنبات القوي، مما يضمن محصولاً وفيراً في الربيع.

مرحلة "التوديع"

لا يرحل البرد فجأة بمجرد انتهاء الأربعينية في 2 فبراير، بل يتبع ذلك مرحلة انتقالية قصيرة ولكنها متقلبة ، تعرف شعبياً باسم "التوديع" أو "الانصراف"، تستمر هذه المرحلة حتى منتصف فبراير، وتعد من أصعب الأوقات بسبب التقلبات الجوية المفاجئة التي قد تُلحق الضرر بالمحاصيل التي بدأت بالإنبات.

العزازة (2 فبراير – 11 فبراير)

عشر ليالٍ يتسم فيها الطقس بالتقلب الحاد والمفاجئ بين البرودة الشديدة و ومضات الدفء الخادعة، و سُميت بذلك ربما لشدتها وصعوبتها على الناس، أو لـ "عزة" البرد المتبقية.

ليالي قرة (12 فبراير – 14 فبراير)

الأيام الثلاثة الختامية التي تمثل آخر فورة للبرد القارص وهي معروفة شعبياً بـ "قرة العجوز" أو "برد العجوز"، وهي فورة مفاجئة وشديدة قد تترافق مع رياح باردة قوية.

وبانقضاء يوم 14 فبراير، يكون موسم البرد الشتوي الشديد قد أسدل ستائره بشكل نهائي، مفسحا المجال لطقس أكثر دفئًا ومُعلنًا بداية التوجه نحو فصل الربيع والاعتدال.

الدليل الحي لإدارة الموسم

تعد "أربعينية الشتاء" دليلًا حياً على عبقرية الأجداد في ربط الظواهر الكونية بالدورة الزراعية، ليس مجرد تقليد شعبي عابر، بل هو نظام متكامل ودقيق لإدارة الموسم الزراعي، يثبت أن الحكمة والمعرفة المتوارثة تظل أساسًا صلباً يستعان به في مواجهة تحديات الطبيعة.

هذه المعرفة العميقة بـ "أصوال" و "فصول" المناخ المصري هي خير تأكيد على أن مصر هي بالفعل الأرض التي سبقت عصور التاريخ بمعارفها، ولا تزال تنير لنا الطريق حتى اليوم.
 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة