في تاريخ المسيحية، تقف مدينة نيقية كمنارة إيمان لا يطويها النسيان. فهي ليست مجرد مدينة قديمة، بل رمز خالد لوحدة الكنيسة وثباتها العقائدي أمام أعاصير الهرطقات. ففي عام 325م، التأم آباء الكنيسة من مشارق الأرض ومغاربها فى مجمع نيقية المسكوني الأول، الذي شكل نقطة تحول كبرى خطّت دستور الإيمان المسيحي القويم، ورسخت الهوية اللاهوتية للكنيسة الجامعة عبر قانون الإيمان النيقاوي الذى لا يزال يتلى حتى اليوم.
واليوم، وبعد مرور 17 قرنًا كاملة، تستعد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لإحياء هذا الحدث الاستثنائي باحتفالية ضخمة تُعد الأكبر من نوعها.
البابا تواضروس يرعى الاحتفال: رسالة روحية تتجاوز الزمن
برعاية قداسة البابا تواضروس الثاني، أطلقت الكنيسة القبطية احتفالية كبرى وغير مسبوقة لإحياء ذكرى نيقية، فى رسالة واضحة تؤكد الهوية الأرثوذكسية وترسخ الوعى الكنسى لدى الأجيال. فالاحتفالية لا تستعيد مجرد حدث تاريخي، بل تبعث حياة جديدة فى جوهر العقيدة المسيحية وتشرح أهميتها للشباب والأطفال بلغة معاصرة.
فعاليات من 18 إلى 22 نوفمبر: أيام مكثفة من الفن واللاهوت والتاريخ
وأنطلقت الفعاليات الرسمية خلال الفترة من 18 حتى 22 نوفمبر 2025، مع التركيز على يومي الخميس 20 نوفمبر والسبت 22 نوفمبر، حيث تشهد الكاتدرائية المرقسية بالعباسية أبرز لحظات الاحتفال بروحانية ومحتوى فني ولاهوتي معاصر.
الخميس 20 نوفمبر: ليلة فنية تجمع الكنائس تحت عباءة الإيمان الواحد
وعند السادسة مساءً، بدأ الاحتفال الفني الكبير فى فناء الكاتدرائية، بحضور قداسة البابا تواضروس الثاني وأعضاء المجمع المقدس ورؤساء الكنائس المسيحية فى مصر وممثلي إيبارشيات الكرازة المرقسية من الداخل والخارج. ويهدف الحفل إلى تبسيط الحدث التاريخي وربطه بحياة المؤمن المعاصر، فى رسالة تؤكد أن نيقية إرث مسكوني مشترك لكل الكنائس الأرثوذكسية.
السبت 22 نوفمبر: خطاب روحى يستهدف الشباب والأطفال
وتتواصل الاحتفالات صباح السبت فى فناء الكاتدرائية ثم داخلها، حيث تقدم الكنيسة محتوى وعظيًا وروحيًا بلغة مبسطة تستهدف الجيل الجديد. وتؤكد هذه الفعاليات حرص الكنيسة على إحياء معنى نيقية فى وجدان الشباب، باعتبارهم حاملي شعلة الإيمان فى المستقبل.
رؤية الكنيسة: تعليم التراث لحماية الهوية الأرثوذكسية
وأوضح القمص موسى إبراهيم، المتحدث الرسمي باسم الكنيسة، أن الاحتفال يشمل فقرات إبداعية وعروضًا فنية حديثة تهدف إلى تقديم محتوى ثرى يجمع بين التعليم والتراث والروحانية. ويؤكد أن معرفة التراث الكنسي ضرورة للحفاظ على الهوية الأرثوذكسية وتعزيز وعي أبناء الكنيسة بتاريخ المجمع وأهميته.
"نيقية 325م": مرجع بحثي يوثق التاريخ بدقة علمية
وفى إطار الاحتفال، أصدرت الكلية الإكليريكية بالأنبا رويس كتابًا بحثيًا جديدًا بعنوان:
"مجمع نيقية المسكوني 325م – دراسة تاريخية من منظور اجتماعي وثائقي".
وقدم قداسة البابا تواضروس الكتاب، وراجعه متخصصون فى النصوص اليونانية واللاتينية، ليخرج كمرجع موسوعي يتضمن دراسة تحليلية متعمقة للمجمع، وترجمة كاملة لثمانين وثيقة أصلية مع وضع النصوص العربية إلى جوار أصولها.
أثناسيوس الرسولي… الصوت المصري الذي حسم معركة الإيمان
ويظل القديس أثناسيوس الرسولى أحد أبرز رموز مجمع نيقية، وقد كان شماسًا شابًا آنذاك وأحد أشد المدافعين عن لاهوت المسيح فى مواجهة بدعة أريوس. وإلى جانب دوره المحورى، شهد المجمع صدور قرارات تاريخية رسمت مستقبل العقيدة.
قرارات تاريخية صنعت مستقبل المسيحية
من أبرز قرارات المجمع:
– صياغة قانون الإيمان النيقاوي.
– إدانة بدعة أريوس.
– تحديد موعد واحد لعيد القيامة.
– إصدار 20 قانونًا كنسيًا لا تزال سارية إلى اليوم.
احتفالات دولية تعكس قوة الحضور القبطي عالميًا
وتمتد رسالة الكنيسة القبطية على الصعيد الدولى، إذ نظمت فى مايو الماضي احتفالًا كبيرًا بحضور بطاركة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، كما استضافت المؤتمر السادس لمجلس الكنائس العالمي بوادي النطرون، مما يؤكد دورها الراسخ فى تثبيت العقيدة الأرثوذكسية عالميًا.
الكنيسة تدعو الإعلام: تغطية نوعية ليومين استثنائيين
وجه المركز الإعلامي القبطي دعوة للصحفيين لحضور الاحتفالات، موضحًا أن منطقة خاصة "Media Zone" ستتيح لقاءات مع المطارنة والأساقفة ورؤساء الكنائس قبل بدء فعاليات يومي الخميس والسبت، على أن تبدأ التغطية من الرابعة والنصف مساءً داخل الكاتدرائية.
من نيقية إلى اليوم… شعلة الإيمان التي لا تنطفئ
وتعتبر احتفالية الكنيسة بمرور 17 قرنًا على مجمع نيقية ليست مجرد إحياء ذكرى، بل لحظة روحية تعيد التأكيد على جوهر الإيمان المسيحي. إنها دعوة للأجيال الجديدة لقراءة تاريخ آبائهم واستلهام روح الثبات العقائدي، لتبقى الكنيسة – كما أراد لها الآباء – حاملةً شعلة الإيمان المستقيم من نيقية إلى الأبد.