تتحول الأنهار الجليدية حول العالم من ظاهرة طبيعية موسمية إلى كابوس يهدد مجتمعات بأكملها، من جبال الألب السويسرية حيث ابتلعت الانهيارات قرى كاملة مثل بلاتن، إلى القارة القطبية الجنوبية حيث يهدد نهر القيامة العالم كله، مرورًا بجرينلاند التى فقدت ملايين الأطنان من جليدها خلال عقود قليلة.
ويبدو أن الأرض تفقد تدريجيًا دروعها البيضاء التى حافظت على توازنها لآلاف السنين، فيما يحذر العلماء من أن هذه الانهيارات ليست مجرد ذوبان للجليد، بل قنابل مائية موقوتة قادرة على رفع مستوى البحار وإغراق السواحل وتشريد ملايين البشر فى أقل من جيل واحد.
مخاوف من تكرار كارثة حدثت منذ 9000 عام
كشفت دراسة حديثة عن احتمالية كبيرة لتكرار انهيار ضخم وسريع للغطاء الجليدى فى شرق القارة القطبية الجنوبية مثل التى حدثت منذ 9000 عام، حيث تمكن فريق من المعهد الوطنى اليابانى لأبحاث القطب NIPR من دراسة هذه الظاهرة، مما يوفر عناصر مهمة لفعم هشاشة الجليد فى القارة الجنوبية واستجاباته المجتملة للارتفاع الحالى فى درجات فى درجات الحرارة العالمية.
ووفقا لصحيفة انفوباى الأرجنتينية فقد قاد الدراسة البروفيسور يوسوكى سوجانوما، وركز الفريق على معرفة أسباب فقدان الجليد الضخم فى شرق القارة القطبية الجنوبية خلال الحقبة الهولوسينية المبكرة، وهى فترة كانت فيها درجات حرارة الأرض أعلى من اليوم. هذه المنطقة، التى تحتوى على أكثر من نصف احتياطات المياه العذبة فى العالم، تظهر اليوم علامات على تراجع الجليد عند سواحلها، ما جعل الربط بين الماضى والحاضر ضروريا للباحثين.
تحليل الرواسب البحرية
لإعادة بناء الأحداث التى وقعت قبل 9000 عام، قام العلماء اليابانيون بتحليل نوى الرواسب البحرية فى خليج لوتزوف-هولم، بالقرب من محطة سيووا، تضمنت التجارب الجيولوجية والكيميائية تحديد نسب النظائر للبيريليوم، وهو ما ساعد على تحديد التسلسل الزمنى للتغيرات البيئية الماضية.
جبال الألب السويسرية
فى قلب جبال الألب السويسرية، تجسدت هذه المخاطر فى كارثة غير مسبوقة قبل أشهر قليلة. انهيار أجزاء ضخمة من جبل جليدى فوق قرية بلاتن دفن منازل وسكانها تحت ملايين الأمتار المكعبة من الصخور والجليد والطين. وعلى الرغم من أن 300 نسمة من سكان القرية تم إجلاؤهم قبل الانهيار بأيام بفضل تحذيرات الجيولوجيين، فإن المشهد كان صادمًا للعالم: كنائس وفنادق ومزارع مطمورة تحت الجليد، فيما طرح الجميع سؤالًا محوريًا: هل أصبحت جبال الألب نفسها، رمز الجمال الأوروبى والاستقرار، معرضة للانهيار بسبب تغير المناخ؟
ويؤكد الخبراء أن ما حدث لم يكن طبيعيًا، بل نتيجة مباشرة لارتفاع درجات الحرارة العالمية. ذوبان الجليد السرمدى (البرمافروست) الذى يربط الصخور ببعضها جعل القمم الجبلية غير مستقرة. ومع ارتفاع خط الصفر المئوى فى سويسرا إلى مستويات قياسية، أصبح ذوبان الأنهار الجليدية السريع بمثابة ساعة موقوتة تهدد القرى السياحية والحياة الريفية التى تشكل جزءًا من هوية البلاد.
نهر القيامة
أما فى القارة القطبية الجنوبية، فيقبع نهر القيامة أو نهر ثويتس الجليدى، الذى يصفه العلماء بأنه قنبلة موقوتة للمناخ. يقدر الخبراء أن انهيار هذا النهر وحده قادر على رفع مستوى البحار أكثر من 65 سنتيمترًا، وهو كافٍ لإغراق مناطق ساحلية مأهولة بمئات الملايين من البشر، من دلتا النيل إلى جزر المحيط الهادئ، ويمتد تأثيره إلى مدن عملاقة مثل نيويورك وميامى، وما يزيد المخاوف هو أن انهيار هذا النهر قد يشعل سلسلة انهيارات جليدية أخرى، ما قد يؤدى إلى ارتفاع مستويات المحيطات إلى مترين أو أكثر خلال هذا القرن، ويجعل التنبؤ بالموعد المحدد للكارثة أمرًا بالغ الصعوبة.
جرينلاند
وفى الجانب الآخر، تعيش جرينلاند مأساة متسارعة بفقدان نحو 5% من جليدها خلال 25 عامًا، أى ما يعادل ضعف مساحة إقليم جاليسيا الإسباني. هذا الذوبان السريع لا يرفع مستوى البحار فحسب، بل يعيد تشكيل النظم البيئية البحرية، حيث تغذى المياه العذبة الغنية بالمعادن نمو العوالق النباتية بنسبة 40% فى خمس سنوات، ما يبدو إيجابيًا للوهلة الأولى لكنه يهدد السلسلة الغذائية البحرية بأكملها ويضرب الثروة السمكية التى يعتمد عليها ملايين البشر.
ويطرح الخبراء سؤالًا عالميًا: كيف يمكن للبشرية حماية القرى والمدن الساحلية من هذه الكوارث؟ فى سويسرا، يفتح الحديث عن إعادة بناء القرى المهددة مثل بلاتن وبرينز وكنديرستيج جدلًا كبيرًا بين ضرورة حماية التراث والواقع المناخى المتغير، وسط تزايد المخاطر الطبيعية.