فى يوم يختلط فيه القديم بالحديث، ويجتمع التاريخ مع الحاضر فى مشهد روحى نادر، شهدت الكاتدرائية المرقسية بالعباسية احتفالًا غير مسبوق بمرور 1700 عام على انعقاد مجمع نيقية المسكونى الأول، أحد أهم المحطات التى صنعت ملامح العقيدة المسيحية عبر العصور، أجواء مهيبة، قلوب فرحة، بخور يتصاعد كصلاة صامتة، وترانيم تغزل معنى الإيمان الذى لم يتغير رغم مرور سبعة عشر قرنًا.
كان اليوم أشبه برحلة عبر الزمن؛ رحلة تبدأ من القرن الرابع حيث اجتمع الآباء ليصيغوا قانون الإيمان، وتمتد حتى القرن الحادى والعشرين حيث يجتمع البابا تواضروس الثانى وأساقفة المجمع المقدس ورؤساء الطوائف والآلاف من الشعب ليعيدوا تأكيد الثبات، والمحبة، والحوار… الدروس التى تركها نيقية للأجيال.

الآباء الكهنة والمطارنة فى احتفالية الكنيسة بذكرى مجمع نيقية
انطلاق الاحتفال… الكاتدرائية تستقبل التاريخ
وبدأت الأجواء داخل الكاتدرائية منذ ساعات الصباح الأولى. استعدادات مكثفة، حركة نشطة، فرق الكشافة تتوزع على المداخل، وفود الكنائس تتوافد، ووسائل الإعلام تحتشد لنقل لحظة وصفها الجميع بأنها “علامة فارقة” فى تاريخ الكنيسة المعاصر.
كان الحضور يتزايد تدريجيًا مع اقتراب بدء الفعاليات، بينما تصاعدت رائحة البخور داخل الصالة الرئيسية، لتضفى على المكان إحساسًا بالرهبة والقداسة، وكأن الكنيسة تستدعى ذاكرة 325 ميلادية لتعيشها من جديد أمام أعين العالم.

جانب من الحفل
البرنامج الفنى.. ترانيم تحمل عبق التاريخ وروح العقيدة
استهل الحفل بفقرة موسيقية قدمها فريق كورال متخصص فى التراث الكنسى، قدم خلالها مجموعة من الترانيم التى تحمل روح نيقية وتعكس أثرها فى صياغة التعليم المسيحى عبر العصور. كانت الترانيم ليست مجرد موسيقى، بل رسالة؛ تقول إن الصوت الذى ارتفع فى نيقية قبل 1700 عام، لا يزال يتردد حتى اليوم فى كل كنيسة وكل قلب مؤمن.

فريق الكشافة
فيلم نيقية.. ذاكرة مصورة لواحد من أهم مجامع التاريخ
وقدمت الكنيسة خلال الاحتفال الفيلم الوثائقى الجديد “مجمع نيقية”، وهو عمل توثيقى وُصف بأنه “ملحمة بصرية” أعادت سرد واحدة من أهم لحظات الميلاد العقيدى، وتفاعل الجمهور مع الفيلم بشكل واضح، حيث ساد الهدوء التام طوال فترة العرض، قبل أن تتعالى التصفيقات تقديرًا للدقة التاريخية، والمواد الأرشيفية، واللغة البصرية المؤثرة.
الفيلم لم يكن مجرد فقرة فنية، بل درسًا للأجيال الجديدة؛ يعيد إحياء ذاكرة الكنيسة، ويربطها بجذورها، ويوضح كيف صيغ قانون الإيمان الذى يردده الملايين يوميًا حتى الآن.

جانب من عرض فيلم مجمع نيقية
لحظات فرح… الزغاريد تملأ السماء عند وصول البابا
وعند لحظة دخول قداسة البابا تواضروس الثانى إلى الكاتدرائية، تبدلت الأجواء إلى مشهد إنسانى خالص. ارتفعت الزغاريد من السيدات احتفالًا بالمناسبة وبقدوم قداسته، واصطف المئات على جانبى الطريق لتحيته، فيما تولى الكشافة تنظيم المسار بدقة شديدة، وكانت اللحظات تحمل مزيجًا من الفرح والاحترام والرهبة، وكأن الجميع يدركون أنهم شهود على فصل جديد يُضاف إلى تاريخ الكنيسة الطويل.
كورال خاص لاستقبال البابا… وروحانية تضفى معنى أعمق للاحتفال
استقبل فريق كورال الكاتدرائية البابا بمجموعة من الترانيم التى أُعدت خصيصًا لهذه المناسبة، ما أضفى طابعًا احتفاليًا فريدًا، وزاد من الشعور العام بأن اليوم ليس مجرد احتفال، بل مناسبة تحمل عمقًا لاهوتيًا وروحيًا وثقافيًا.
ولم يكن بالإمكان تجاهل الدور البطولى الذى قدمه فريق كشافة الكاتدرائية، فمنذ الساعات الأولى، كانوا القوة الصامتة التى ترتب، تُنسق، وتستقبل الوفود.
وتوزّع الشباب والشابات على المداخل، ساعدوا كبار السن، رافقوا الأطفال، أرشدوا الإعلاميين إلى مواقع التغطية، نظّموا مسارات الدخول والخروج، وضمنوا خروج الاحتفال فى صورة مشرفة تستحقها ذكرى تاريخية بهذا الحجم.
حضور رفيع المستوى… صورة تعكس الوحدة المسيحية على أرض مصر
وشهدت الاحتفالية حضورًا واسعًا لقيادات الكنائس المختلفة فى مصر، فى مشهد يعكس قوة الوحدة الروحية على أرض مصر، وحضر جناب القس الدكتور أندرية زكى رئيس الطائفة الإنجيلية ونيافة المطران سامى شحاتة مطران الكنيسة الأسقفية وممثل عن البطريرك إبراهيم إسحق بطريرك الكاثوليك ونيافة المطران ذمسكيموس النائب البطريركى للروم الأرثوذكس ونيافة المطران جورج شيحان مطران الموارنة وهذا التنوع الروحى تحت سقف واحد كان رسالة بحد ذاته؛ رسالة بأن الإيمان الذى اجتمع الآباء للدفاع عنه فى نيقية، لا يزال يجمع أبناء الكنائس اليوم.
كلمة البابا تواضروس… رسائل روحية تعبر القرون
واستهل البابا كلمته بالإشارة إلى زيارته الأخيرة لأسيوط، واصفًا إياها بأنها "علامة فى التاريخ المعاصر" و"أجمل زيارة" فى احتفالات ذكرى تجليسه هذا العام، وأعرب قداسته عن امتنانه العميق للحفاوة الشعبية والروحية التى لمسها هناك، معتبرًا الزيارة بركة خاصة تزامنت مع الذكرى التاريخية لنيقية.
وقدم البابا شكرًا خاصًا لصُنّاع العمل الوثائقى، مشيرًا إلى أن الفيلم “يُظهر جمال التاريخ”، ويؤكد أن الكنيسة “تحفظ الوديعة المسلَّمة من القديسين وتسلمها للأجيال القادمة”، وكان الشكر ليس فنيًا فقط، بل لاهوتيًا وروحيًا؛ لأن الحفاظ على العقيدة هو جوهر رسالة الكنيسة عبر الأجيال.

كلمة قداسة البابا
دروس نيقية… إيمان ثابت ومحبة لا تسقط
وحدد البابا ثلاثة مبادئ أساسية خرجت بها الكنيسة من مجمع نيقية، ولا تزال حاضرة حتى اليوم: الإيمان لا يهتز أبدًا و المحبة لا تسقط أبدًا والتلمذة أساس تقدم الكنيسة، وتوقف عند مبدأ الحوار الذى ميّز المداولات التى استمرت لمدة شهر كامل، حيث كان كل شخص يقدم وجهة نظره ويُناقش استخدام الآيات استخدامًا صحيحًا.
وأكد أن هذه الروح الحوارية يجب أن تبقى حاضرة فى كل عصر.

احتفالية الكنيسة بذكرى مجمع نيقية
“يد الله هى التى تضبط الكنيسة وترعاها”
وأكد البابا أن دروس نيقية لا تنتهى، لأن الكنيسة محمولة دائمًا بيد الله، وأشار إلى احتفال الكنيسة بالذكرى فى قداس مشترك فى مايو الماضى، وإلى عقد المؤتمر الدولى السادس لكنائس العالم فى مصر، معتبرًا أن وجود هذه الأحداث على أرض مصر يحمل رسالة روحية عميقة.
وختم البابا كلمته برسالة تحمل بعدًا وطنيًا روحيًا، قائلاً: "كل بلاد العالم فى يد الله… ومصر فى قلب الله" و"هذه هى مصر التى تنتج الأبطال ونفتخر بها دائمًا"، وأشار إلى أن مصر هى التى احتضنت الإيمان منذ فجر المسيحية وحافظت عليه مستقيمًا، معتبرًا ذلك “عمل الله وليس الإنسان".
ومع انتهاء فقرات الحفل، كانت مشاعر الفرح تملأ المكان. فقد نجحت الكنيسة فى تقديم احتفال ضخم يجمع بين التاريخ والفن والروحانية، ويعيد إحياء لحظة من أهم لحظات الإيمان المسيحى فى صورة معاصرة تمس القلوب وتثبت الجذور.
كان اليوم شهادة على أن ما بدأ عام 325م لا يزال حيًا حتى اليوم… وأن كنيسة الإسكندرية، التى شاركت فى صياغة العقيدة منذ 1700 عام، لا تزال تحمل الشهادة نفسها بثبات ومحبة وإيمان.

جانب من كلمة قداسة البابا