يُعتبر شهر نوفمبر من الشهور المميزة في ذاكرة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إذ يزدان بذكريين متتاليتين لبطريركين رسخا بصمتهما في التاريخ الكنسي والوطني؛ البابا شنودة الثالث الذي جُلس على الكرسي البابوي في 14 نوفمبر 1971 ليصبح البطريرك رقم 117، والبابا تواضروس الثاني الذي تبوأ الكرسي المرقسي في 18 نوفمبر 2012 كبطريرك رقم 118.
ورغم أن كليهما حمل همّ الكنيسة وخدمها بنفس الإخلاص، فإن لكل واحد منهما أسلوبه الخاص في القيادة الكنسية والإدارة الروحية، يعكس شخصيته وظروف عصره، ويعبر عن رؤيته في خدمة الإيمان والوطن.
البابا شنودة الثالث.. صرامة الانضباط ووضوح الكلمة
يُعد البابا شنودة الثالث واحدًا من أكثر باباوات الكنيسة القبطية حضورًا وتأثيرًا في التاريخ الحديث. فقد تميزت قيادته بقدر كبير من الانضباط الحازم في الإدارة الكنسية، والقدرة على الإمساك بكل خيوط العمل داخل الكنيسة بدقة ومتابعة شخصية.
كان البابا شنودة يؤمن بأن الكنيسة يجب أن تُدار بعقلية الأب القائد، فكان قريبًا من التفاصيل اليومية، متابعًا للآباء الكهنة والأساقفة، محددًا لكل منهم مسؤولياته بدقة.
اعتمد البابا شنودة في تواصله مع الشعب على العظة الأسبوعية بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية، التي تحولت إلى منبر فكري وروحي ينتظره الملايين كل أربعاء، حتى صارت عظة الأربعاء، مؤسسة قائمة بذاتها في الوعي القبطي.
كان يجيب على أسئلة الناس بعفوية وارتجال، في حوار مباشر، يمزج بين التعليم اللاهوتي والروح الشعبية المصرية، فصار صوته مرجعًا روحيًا وثقافيًا لملايين الأقباط في الداخل والخارج.
كما امتاز البابا شنودة بقدرة فريدة على صياغة الموقف الوطني والكنسي معًا. فقد كان حاضرًا في القضايا العامة، داعمًا لوحدة الوطن في الأزمات، ومساندًا لحقوق الكنيسة دون صدام أو تهاون. خاض أزمات كبرى، وظل صامدًا بثبات إيمانه وعقيدته الوطنية، حتى خرج مكرمًا مهابًا ليواصل خدمة استمرت لأكثر من أربعة عقود.
البابا تواضروس الثاني.. انفتاح وتحديث مع ثبات العقيدة
بعد رحيل البابا شنودة الثالث، واجهت الكنيسة تحديات جديدة في مجتمع سريع التغير، فكان اختيار البابا تواضروس الثاني عام 2012 إيذانًا بمرحلة مختلفة في أسلوب القيادة الكنسية.
جاء البابا تواضروس من خلفية علمية في الصيدلة، وتربى في مدرسة رهبانية هادئة، ما جعله يميل إلى العمل المؤسسي الهادئ والتشاور الجماعي بدلًا من المركزية.
يحرص البابا تواضروس على التواجد الميداني في مختلف الإيبارشيات والكنائس، متنقّلًا بين المحافظات والكنائس في زيارات رعوية مستمرة، بدلاً من الاكتفاء بمكان ثابت للعظة الأسبوعية. كما يعتمد على استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة في التواصل مع الشعب، فبدلاً من الأسئلة المباشرة من الحضور كما كان في عهد البابا شنودة، أصبحت الأسئلة تُجمع عبر الموقع الرسمي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ليُجيب عنها في عظته.
ومن أبرز سمات البابا تواضروس أنه أعاد رسم صورة الكنيسة في المجال العام باعتبارها شريكًا وطنيًا فاعلًا في بناء الدولة، مؤكدًا أن الكنيسة جزء من نسيج الوطن لا كيانًا منفصلًا عنه.
ففي أحلك الفترات السياسية والأمنية التي مرت بها مصر عقب 2013، كان صوته داعمًا للاستقرار ووحدة الصف، وشارك في صياغة مواقف وطنية حكيمة حافظت على صورة الكنيسة كبيت سلام وطني.
بين جيلين من القيادة.. ثوابت العقيدة ومتغيرات العصر
رغم اختلاف أسلوب كل بطريرك في الإدارة والتواصل، فإنهما يشتركان في رؤية جوهرية، أن الكنيسة يجب أن تبقى منارة إيمان ووحدة، لا منبرًا للخلاف أو الانقسام.
فبينما كان البابا شنودة يؤمن بأن الصرامة في التنظيم تحفظ كيان الكنيسة، يرى البابا تواضروس أن التنوع في الأسلوب لا يتعارضان مع ثبات العقيدة.
تحت قيادة البابا شنودة، تأسست أسقفيات جديدة لخدمة الشباب والكرازة والتعليم، بينما عزز البابا تواضروس هذا البناء بإدخال آليات إدارية حديثة ومجالس متخصصة لتطوير الخدمة والرعاية.
أطلق البابا شنودة القنوات القبطية الفضائية آغابي وCTV ولوجوس، في حين جعل البابا تواضروس الإعلام الرقمي وسيلة للتعليم والتفاعل المباشر مع الأجيال الجديدة.
رؤية واحدة.. وطرق متعددة
يجمع البابا شنودة الثالث والبابا تواضروس الثاني حلم الكنيسة الواحدة التي تخدم الإنسان المصري روحيًا ووطنيًا، رغم اختلاف أدوات وأساليب كل منهما.
الأول قاد الكنيسة في زمن الأزمات الصعبة بصلابة وإيمان، والثاني يقودها في زمن الحوار والتحديث بثقة واتزان.
وفي النهاية، تبقى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مستفيدة من التنوع في الخبرة والأسلوب بين جيلين من القيادة، يجسدان معًا صورة الأب الراعي والمعلم الخادم، الذي يسير بشعبه نحو الإيمان الراسخ والوطن الآمن.