في تلك الأمسية التي حملت رائحة الشتاء الأولى، بدا مسرح ساقية الصاوي كأنه يتأهب لحدث استثنائي، لم تكن مجرد حفلة، بل لحظة ولادة جديدة لصوتٍ يعرف الطريق إلى القلب قبل الأذن، فحين صعدت لمياء الرياحي إلى الخشبة، بدا حضورها وكأنه ضوءٌ ينساب في المكان بلا مقدمات، تتقدمه هالة من صدق، ودفء، وثقة هادئة لا تستعرض نفسها، ومنذ اللحظة الأولى، أدركنا أننا أمام تجربة لا تكتفي بالغناء، بل تمارس فعلًا جماليًا يعيد الطرب إلى صفائه الأول.
من منظور نقدي، فإن ظهور لمياء الأول في مصر لم يكن اختبارًا صوتيًا بقدر ما كان اختبارًا لحدسها الفني: هل تستطيع أن تخاطب ذائقة جمهور يتنفس الطرب كما لو كان جزءًا من تكوينه؟ الإجابة جاءت من الجمهور ذاته، الذي ملأ القاعة كاملة العدد على مدى ثلاثة أيام، ومن رد الفعل الفوري الذي استقبل كل أغنية وكأنه يستعيد شيئًا أراد أن يسمعه منذ زمن.
لمياء الرياحي لا تغني فقط. . إنها تعيد تركيب الذاكرة، فصوتها يحمل نبرة شجن رقيقة، لكنه مشرق بما يكفي ليعيد الحياة إلى الأغاني التي طالما عرفناها، وفي كل مقطع أدته، بدا واضحًا أنها مطربة تمتلك وعيًا دقيقًا بطبيعة الأغنية العربية، وتعرف تمامًا متى تُطلق القوة، ومتى تكتفي بالهمس، وكيف تُوازن بين الأصالة والتحديث دون أن تفقد شيئًا من هويتها.

الفنانة لمياء الرياحي
بدأت لمياء الحفل بتحية صادقة لمصر، قالتها بعينين تلمعان كما يلمع المرء حين يقترب من حلمه، وتحدثت عن أن تجربتها كان ينقصها أن تغني في مصر، وكانت صادقة بما يكفي ليشعر الجمهور أن ما تقوله ليس خطابًا جاهزًا، بل نبضًا حقيقيًا، ثم غنت لمصر وبدأت بـ "بوابة الحلواني" لتقول بصدق :
بندق ندق بوابة الحياة بالإيدين قومي قومي افتحي
لولادك الطيبين قومي قومي
اللى بنى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى
وعشان كده مصر يا ولاد مصر ياولاد حلوة الحلوات
هنا تعلن منذ اللحظة الأولى انحيازها للأغنية المصرية العميقة، تلك التي تستدعي تاريخًا من الأسماء والقصائد والألحان، وفي الوقت نفسه، لم تتخلّ عن جذورها التونسية، ففتحت بوابة الذاكرة على تراث بلدها، وقدمت "لاموني اللي غاروا مني" بروح تحتفي بكل ما في الأغنية من تمرد وبهجة وحسرة، وبهذا المزج الذكي بين التراثين المصري والتونسي، صنعت لمياء جسرًا موسيقيًا جميلًا عبره الجمهور دون أن يشعر بالانتقال.
تنقلت لمياء بين روائع وردة، وأم كلثوم، وعبد الحليم، ووديع الصافي وهاني شاكر، وسميرة سعيد ، وفيروز.. لكنها لم تكن تؤديهم بصيغة التكرار، بل كانت تضع بصمتها الخاصة، كأنها تُعيد تقديم الأغنية من داخلها، لا من سطحها، وهذه القدرة على إعادة تشكيل المادة الغنائية هي ما يجعلها حالة فنية تستحق التوقف عندها، فهي تعرف ببراعة ماذا ينتظر الجمهور؟ ، وكيف تعطيه ذلك، لكن دون أن تتحول إلى مجرد مطربة تغني أعمال الآخرين.. إنها تعيد خلقها.
وما يميز هذه التجربة أيضًا هو الخلفية التي جاءت منها لمياء: نادي الطرب "رياحيات"، المشروع النسائي الذي منح عشرات الأصوات النسائية فرصةً للتعبير والغناء دون اشتراط الاحتراف. وهو مشروع يُعيد الاعتبار لفكرة أن الموسيقى ثراء إنساني قبل أن تكون مهنة، وأن حنجرة صادقة يمكن أن تغيّر نظرتنا للفن.
لهذا، لم يكن غريبًا أن يتحول حفل لمياء الرياحي إلى واحدة من أهم الفعاليات الموسيقية النسائية في المنطقة، ليس لأنها أولى حفلاتها في مصر فحسب، بل لأنها جاءت لتؤكد أن الطرب الأصيل لا يزال قادرًا على أن يجد لنفسه مكانًا لائقًا وسط الضجيج، وأن الأصوات التي تحمل الحب الحقيقي للموسيقى لا تحتاج سوى إلى مسرح.. وجمهور..ولحظة صدق.
وفي تلك الليلة، بدا واضحًا أن لمياء الرياحي ليست مجرد مطربة صاعدة، بل صوتٌ يحمل مشروعًا، ورؤية، وملمحًا خاصًا، يجعلها واحدة من الأسماء التي يمكن أن تترك أثرًا طويل المدى على الأغنية العربية.