في السادس من أكتوبر 1973، شهدت مصر واحدة من أعظم الملاحم الوطنية في تاريخها الحديث، عندما خاضت قواتها المسلحة الحرب الأعظم ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأعلنت استرداد أراضيها المحتلة.
وفي وسط هذه المعركة الوطنية الكبرى، كان لوزارة الداخلية دور محوري ومهم لم يقتصر فقط على حماية الجبهة الداخلية، بل تجاوز ذلك ليشمل عدة مهام أساسية ساهمت في تحقيق النصر.
لم تكن حرب أكتوبر مجرد صراع عسكري بين جيوش على الجبهة، بل كانت معركة وطنية شاملة شارك فيها كافة أطياف الشعب المصري، وكان رجال الشرطة إحدى الركائز الأساسية التي دعمت القوات المسلحة في مواجهة العدوان، فقد حرصت وزارة الداخلية على تأمين الجبهة الداخلية وتوفير مناخ آمن يسمح للقوات المسلحة بالتركيز على مهامها القتالية دون القلق على الاستقرار الداخلي.
كان دور الشرطة في هذه الحرب يتمثل في إعداد خطة أمنية متكاملة لضمان تأمين المدن والمناطق الحيوية، خصوصًا في محافظات القناة التي كانت الأقرب إلى الجبهة.
وفى هذا السياق يؤكد اللواء رأفت الشرقاوي، مساعد وزير الداخلية الأسبق، أن وزارة الداخلية بقيادة اللواء ممدوح سالم، وزير الداخلية وقتها، وضعت خطة محكمة لتدريب سرايا الأمن المركزي على مختلف العمليات القتالية التي كانت متطلبة في تلك المرحلة.
شملت هذه التدريبات تنفيذ عمليات الكمائن، والإغارة على مواقع العدو، والتعرف على طائرات العدو، ومقاومة الهبوط بالمظلات، فضلاً عن تنظيم الدوريات في المناطق الصحراوية والجبلية التي كان من المتوقع أن تكون مسرحًا لأي هجوم.
قبل اندلاع الحرب بأربعة أيام فقط، عقدت وزارة الداخلية اجتماعات مكثفة مع مسؤولي مديريات الأمن في كافة أنحاء البلاد لوضع خطط ثابتة لتأمين البلاد بالكامل في حال اندلاع العمليات القتالية.
كان تركيز هذه الخطط منصبًا بشكل خاص على مدن القناة، التي كانت مهددة بشكل مباشر بعمليات العدو، حيث تأكدت الوزارة من جاهزية كافة القوات الأمنية، واستعدادها التام لأي طارئ.
ولم يكن دور رجال الشرطة مقتصرًا على التدريب فقط، بل سجلت العديد من الملاحم البطولية التي أثبتت تضحية وعزيمة رجال الداخلية، ففي السويس، على سبيل المثال، سطر رجال الشرطة مواقف بطولية لا تنسى خلال فترة الحرب، وكان من أبرز هذه المواقف ما رواه اللواء رأفت الشرقاوي عن موقف اللواء محي خفاجة، مدير أمن السويس آنذاك، حينما اقترب العدو الإسرائيلي من مشارف المدينة في الفترة من 15 إلى 23 أكتوبر، رغم إعلان وقف إطلاق النار وفقًا للاتفاق الدولي.
خلال هذه الفترة الحرجة، تلقى مدير أمن السويس إخطارًا من الرائد رفعت شتا، مدير شرطة النجدة، يفيد بقيام العدو الإسرائيلي بإرسال طلب عبر سيارة تحمل علمًا أبيض يتضمن تهديدًا واضحًا بتسليم المدينة وقواتها خلال نصف ساعة، وإلا فإن العدو سيشن هجومًا جويًا مدمرًا على المدينة.
أمام هذا التهديد الخطير، لم يترك مدير الأمن الأمر للشك أو التردد، بل اتصل مباشرةً بنبوي إسماعيل، مدير المكتب الفني للواء ممدوح سالم وزير الداخلية، الذي أبلغه بضرورة الدفاع حتى آخر فرد، وأعطى التعليمات بمشاركة كافة القوات ولجان المقاومة الشعبية.
على الفور، قام مدير الأمن بفتح مخازن السلاح وتوزيع الأسلحة على أفراد المقاومة الشعبية، ليقفوا جنبًا إلى جنب مع الشرطة في دفاعهم المستميت عن مدينة السويس، كان هذا التكاتف بين رجال الشرطة ولجان المقاومة الشعبية دليلاً واضحًا على الروح الوطنية العالية والتلاحم الذي كان حاضرًا في كل خطوة من خطوات النضال، واستمرت هذه الملحمة البطولية حتى نجحوا في صد العدو ومنعوه من دخول المدينة، محققين بذلك إنجازًا عظيمًا يستحق التقدير.
المواقف البطولية لرجال الشرطة لم تقتصر على السويس فقط، بل تعددت الملاحم في مختلف المدن المصرية التي ساهمت في الحفاظ على أمن واستقرار الداخل خلال الحرب.
أكد اللواء رأفت الشرقاوي أن رجال الشرطة في تلك المرحلة كانوا يشكلون درع الوطن وحاميه، وقدموا تضحيات كبيرة على مدار أيام الحرب، وسط أجواء مليئة بالتحديات والخطر، محققين مع القوات المسلحة النصر الذي ما زالت الأجيال تتناقل قصصه.
كانت رسالة رجال الشرطة في حرب أكتوبر واضحة: النصر أو الشهادة، وكان كل فرد منهم يحمل على عاتقه مسؤولية كبيرة، يكتب بها سطرًا جديدًا في سجل البطولة المصرية.
لم يكن دورهم يقتصر على حفظ الأمن فقط، بل امتد إلى الدفاع المباشر عن المدن والمواطنين بكل ما يملكون من عزم وإرادة.
يبقى دور وزارة الداخلية في حرب السادس من أكتوبر علامة فارقة في تاريخ مصر، يعكس تلاحم الشعب مع قواته المسلحة في مواجهة العدوان، ويؤكد أن النصر كان ثمرة جهد مشترك بين كل أبناء الوطن، من الجيش إلى الشرطة إلى المقاومة الشعبية، في ملحمة وطنية خالدة تستحق كل فخر واعتزاز.