لطالما شكلت مسألة وجود الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى المملكة العربية السعودية موضوعًا حساسًا على مدى عقود، لكن التطورات الأخيرة تشير إلى أن الملف بدأ يتحرك بهدوء شديد نحو واقع ملموس فمنذ تأسيس المملكة وحتى العقد الأخير، لم تشهد أراضيها أى وجود رسمى لكنائس، معتبرة أن الإسلام هو دين الدولة وحماية الحرمين الشريفين تتطلب احترامًا صارمًا لهوية المملكة. ومع ذلك، وبحسب تقديرات شبه رسمية، يعيش فى السعودية بين 300 و700 ألف مصرى قبطى، يعملون فى قطاعات مختلفة من الطب والهندسة والتعليم، ما جعل الحاجة إلى رعاية روحية متوازنة للمجتمع القبطى أمرًا ملحًا، إلا أن هذه الرعاية اقتصرت على القداسات فى قاعات فنادق وأماكن مغلقة بتنسيق كامل مع السلطات، بعيدًا عن الإعلام الرسمى.
القداسات والخطوات العملية
وشهدت السنوات الماضية خطوات متدرجة نحو فتح المجال الروحى للأقباط، بدأت بلقاء تاريخى فى القاهرة عام 2016 بين الملك سلمان بن عبد العزيز والبابا تواضروس الثانى، وهو اللقاء الأول من نوعه بين ملك سعودى وبابا الكنيسة القبطية، ووصفه البابا بأنه كان «علامة فارقة فى مسار العلاقات بين الكنيسة والسعودية». وفى عام 2018 أشار مستشار للعاهل السعودى لصحيفة «إيكونوميست» إلى أن مسألة افتتاح كنيسة فى المملكة «مسألة وقت». بين عامى 2021 و2023، شهدت المملكة زيارات رعوية هادئة لكهنة قبط بتنسيق كامل، قبل أن يتم الإعلان عن أول قداس رسمى فى الرياض فى أبريل 2024، يليه قداسان آخران فى 2025 فى الرياض والمنطقة الشرقية، حيث أكد البابا تواضروس فى حواره مع CNN بالعربية: «لا يوجد شيء رسمى على الأرض، لكن المؤشرات إيجابية والتطورات مفرحة».
البابا تواضروس الثانى
وعلق قداسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، عن أنباء عقد أول قداس فى السعودية وإمكانية بناء أول كنيسة قبطية على أرض سعودية.
وقال البابا، فى حواره عبر قناة CNN بالعربية «لا يوجد أى شيء على أرض الواقع حتى الآن، لكن أعتقد فى المستقبل لا يوجد مانع لذلك». وأشار إلى وجود تطورات «مفرحة» فى الحياة السعودية، لافتًا إلى أنه تقابل مع ملك السعودية سلمان بن عبدالعزيز خلال زيارته للقاهرة كما التقى بولى العهد السعودى بعدها بعامين وذلك خلال زيارته للقاهرة أيضًا.
ووصف البابا تواضروس الثانى هذه اللقاءات أنها كانت «طيبة جدًا»، مشيدة بروح الشباب التى تحدث بها ولى العهد السعودى محمد بن سلمان. وتابع: «تقدمنا أن ممكن واحد من الآباء المطارنة يروح ويقابل الأقباط، وتم الموافقة، وصلوا قدسات فى بعض قاعات الفنادق، وكانت زيارات حلوة تكررت مرتين أو ثلاثة».
وأكمل: «ده يمثل انفتاح محمود للمجتمع السعودى، وأعتقد فى المستقبل هيبقى فى أخبار جيدة، صحيح لا يوجد شيء حتى الآن على أرض الواقع، لكن تطور الحال هيحتاج كده».
السعودية الجديدة والانفتاح الاجتماعي
وتأتى هذه الخطوات فى سياق رؤية المملكة 2030، التى أطلقها ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، والتى تهدف إلى تعزيز الانفتاح المعتدل وتمكين المجتمع من التعبير عن نفسه مع الحفاظ على الهوية الوطنية.
ويتعامل النظام السعودى مع الملف بحكمة، مع السماح بممارسة شعائر غير المسلمين ضمن أماكن خاصة ومنظمة، دون الإعلان الرسمى، حفاظًا على خصوصية المملكة، ورغبة فى تنظيم أى نشاط دينى بما يتماشى مع النظام والقوانين المحلية.
تصريحات سعودية 2018
وقال مستشار للعاهل السعودى، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، إن المملكة العربية السعودية قد تتخذ قرارات مهمة بشأن بناء الكنائس فيها.
وذكر المستشار الذى رفض ذكر اسمه، فى تصريحات له لصحيفة "إيكونوميست" البريطانية، أن "السلطات فى المملكة تعتبر مسألة افتتاح كنيسة فى المملكة العربية السعودية مسألة وقت"، وفق قوله.
وقالت الصحيفة البريطانية فى تقريرها أن المملكة "دأبت على إبقاء موقع أثرى مكتشف خلف سياج من الأسلاك الشائكة فيما يقوم حراس الموقع بإبعاد الفضوليين وتهديدهم بالاعتقال".
وأشارت الصحيفة إلى أنه "فى حال كانت الدراسات المستقلة صحيحة، فإنه بين الكثبان الرملية وأشجار النخيل قرب حقول النفط فى المنطقة الشرقية، توجد كنيسة تعود إلى القرن السابع الميلادى (كنيسة الجُبيل)".
سيناريوهات المستقبل القريب
ويرى عدد من الخبراء فى الشأن الكنسى لليوم السابع أنه يمكن تصور ثلاث خطوات متدرجة: الأولى، مركز رعوى دائم فى الرياض خلال السنوات المقبلة، وهو السيناريو الأكثر واقعية، والثانية، كنيسة ضمن مجمع دبلوماسى أو منطقة مخصصة للجاليات، وهى مرحلة متوسطة تتطلب موافقات أعلى، والثالثة، اعتراف رسمى ببناء كنيسة عامة، وهى خطوة بعيدة المدى لكنها ليست مستحيلة فى ظل الانفتاح التدريجى والمفاوضات الدقيقة بين الكنيسة والسلطات.
وفى ضوء التطورات الراهنة، يصبح السؤال عن وجود الكنيسة القبطية فى السعودية أكثر واقعية من أى وقت مضى، فالمملكة تتحرك بخطوات حذرة، الكنيسة تتصرف بحكمة، والدولة المصرية تتابع الملف بدقة حفاظًا على حقوق أبنائها فى الخارج، دون تجاوز القوانين السعودية. يبقى الملف فى مسار تدريجى نحو تقديم الرعاية الروحية للأقباط داخل المملكة، مع الحفاظ على توازن دينى وسياسى دقيق. المستقبل يبقى مفتوحًا، والخطوات التالية ستحدد موعد الإعلان التاريخى عن أى وجود رسمى للكنيسة القبطية على أراضى المملكة.