تتصاعد فى السنوات الأخيرة وتيرة الحديث عن "اللاإنجابية" وتتزاحم حولها آراء متباينة، فريق يراها حقًّا إنسانيًّا خالصًا وخيارًا حياتيًّا مشروعًا، وفريق آخر يتعامل معها كتهديد للأسرة والمجتمع، وثالث يحاول وضع السؤال في إطاره الأخلاقي والبيئي والاقتصادي، وسنناقش معا ما تقول اللغة؟ وما يقوله التراث والفقه؟ وكيف تجلى السؤال في أدبنا العربي وفي أدب العالم وفلسفاته؟
أوّلًا.. في اللغة
تضع المعاجم العربية أصل الدلالة في الفعل "أنجب": وَلَدَ وأَثْمَرَ، ومنه "إنجاب" بمعنى التوالد والتكاثُر، و"أَنْجَبَت المرأةُ" إذا وَلَدَت، و"أَنْجَبَ الرجلُ" إذا صار له ولد، على هذا، تكون اللاإنجابية تركيبًا دلاليًّا حديثًا يُعبر عن نفي فعل الإنجاب أو رفضه.
ثانيًا.. في الفقه الإسلامي
يحض التصور الديني الغالب على الزواج والنسل بوصفهما من سنن العمران واستمرار النوع، ويصل ذلك إلى فضائل مخصوصة تتعلق بتكثير الأمة وإقامة العِشرة والمودّة، ومع هذا الحضّ، عرف الفقه الإسلامي مساحة تنظيم لا تُنكر، ناقش العلماء العَزل ووسائل تقليل الحمل، وجوز كثير منهم ذلك لعذر معتبر وبشروطٍ تحفظ الحقوق، بهذا تتكون معادلة متوازنة: الأصل تشجيع النسب وبناء الأسرة، والاستثناء الجائز تنظيمه أو تأجيله أو الحد منه لاعتبارات صحية واقتصادية وتربوية، ومن ثم لا تقع اللاإنجابية (بمعناها الفلسفي الرافض للميلاد من حيث المبدأ) داخل هذا الإطار.
ثالثًا.. في الأدب العربي
يظهر أبو العلاء المعرّي بوصفه الصوت العربي الأبرز الذي صاغ حساسية لا-إنجابية بعبارة كثيفة خالدة: "هذا جناه أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد"، تشي الجملةُ بموقف زُهدي متشائم يرى الوجود حمولة من الألم والابتلاء، فيمتنع صاحبها عن "إيجاد" مَن قد يجني عليه بثقل الحياة. ومع ذلك، لا يُختزل التراث في هذا الصوت وحده، فالغالب في الأدب العربي تمثيلات تُنشد استمرار السلالة وامتداد الاسم والبيت، وتُجسّد الأمومة والأبوّة كفضائل عاطفية واجتماعية..
رابعًا.. في الفكر العربي
مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، دخلت مفردات الجندر والحقوق الجسدية و"الاختيار الحر" إلى الخطاب العربي، وظهرت قراءات نقدية للضغط الاجتماعي الذي يجعل الأمومة "بداهةً" لا اختيارًا.
في المقابل، بقي خطاب واسع يرى في الإنجاب استثمارًا اجتماعيًّا وامتدادًا طبيعيًّا للعائلة، محذّرًا من تحويل الفردانية إلى تنصّلٍ من المسئولية الجماعية، هكذا يتبلور في الفكر العربي الراهن سجال مزدوج: هل يكون الإنجاب قرارًا يخص الفردين وحدهما أم شأنًا اجتماعيًا؟ وهل يَسعُنا أن نُقيم معيارًا أخلاقيًا عادلًا لا يَجرح مَن أنجب ولا يَصِمُ من لم يُنجب؟
خامسًا.. في الأدب العالمي
لا يوزع الأدب أحكامًا، بل يضع المصابيح على الحواف، منذ الجوقة الإغريقية التي تُلمح إلى أن "خيرًا للإنسان ألّا يولد"، مرورًا بتيارات التشاؤم الأدبي والعبث الحديث، ظل سؤال الميلاد حاضرًا بوصفه عقدة درامية: هل يحق لنا أن ندفع بكائن إلى مسرح لم يختره؟ تتجسّد الإجابة في شخصياتٍ ترفض إنجاب طفل إلى حرب مُقامة، أو إلى مدينة لا تتسع للضعفاء، أو إلى كوكب يزداد سخونة.
في المقابل، تعرض نصوص أخرى الولادة كـ"فعل أمل" ومقاومة للعدم، لا يُجرم الأدب الأبوة ولا يُقدّسها، إنما يُعيد ترتيب الأولويات: أي حياة نعرضها على القادم الجديد؟
سادسًا.. في الفكر العالمي
طرحت الفلسفات اللا-تناسلية الحديثة حججها بصرامة:
حجّة تقليل المعاناة.. الألم محتمل على الدوام، واليقين بالسعادة غير مضمون؛ الامتناع عن الإيجاد يُقلل مجموع الأذى.
حجة عدم الإضرار.. لا ينبغي فرضُ وجودٍ على من لم يُستأذن.
في مواجهة ذلك، تُذكر تيارات أخرى بأن موضع الخلل ليس الميلاد في ذاته، بل شروط الحياة: الظلم، الافقار، سوء التوزيع، وتظهر حلول وسط عملية مثل تأجيل الإنجاب، أو الحد منه، أو ربطه بقدرة الأسرة والمجتمع على الوفاء بحقوق الطفل والبيئة، في هذا الأفق برزت الحجة البيئية إلى الواجهة: بات كثيرون يرون في الإنجاب قرارًا كوكبيًّا بقدر ما هو عاطفي وأسري.