بعث الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل بخطاب استقالته كوزير للإرشاد القومى «الإعلام» إلى رئيس الجمهورية بالنيابة أنور السادات يوم 3 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1970، وذلك بعد يومين فقط من جنازة جمال عبدالناصر التى شارك فيها الملايين يوم 1 أكتوبر 1970.
كان هيكل وزيرا للإرشاد منذ يوم 25 أبريل 1970، بالإضافة إلى رئاسته لـ«لأهرام»، ويذكر فى كتابه «استئذان فى الانصراف» أن عبدالناصر اختاره لمهمة معينة ولمدة محدد «سنة لا تزيد» فى ظرف رآه مهيئا لاختراق سياسى يتوازى مع الذروة فى حرب الاستنزاف، ويذكر أنه اعتزم ترك الوزارة والأهرام معا، لكنه عندما قابل السادات من السابعة مساء إلى الثالثة صباحا فتح له السادات قلبه بغير تحفظات، فخرج من قصر العروبة، يستقبل نسمات فجر 3 أكتوبر، شبه مقتنع بأنه ليس وقت الانصراف من الساحة، واكتفى بترك الوزارة.
يؤكد هيكل أن «السادات» كتب رده بخط يده على خطاب استقالته، ونشرت الأهرام الخطاب والرد على صفحتها الأولى، حسبما يؤكد الكاتب الصحفى رجب البنا فى كتابه «هيكل بين الصحافة والسياسة»، ونصت الاستقالة: «سيادة رئيس الجمهورية بالنيابة.. الأخ والصديق أنور السادات.. الآن وقد استقر جثمانه الطاهر فى ثرى مصر الخالدة، فإنى أتقدم إليك راجيا أن تأذن بإعفائى من العمل فى وزارة الإرشاد القومى، إن وصولى إلى القرار الذى يدفعنى إلى التقدم بهذا الرجاء إليك، لم يصدر عن إحساس بلوعة عاطفية، مع أنه لدى منها أكثر مما يتصور أحد، ولكنه يصدر أيضا عن اعتبارات عديدة، إنسانية وفكرية وعملية أجملها فيما يلى:
أننى خرجت عن هذه القاعدة نزولا على أمر كريم منه، عندما شاء أن يكلفنى بالتعبير الرسمى عنه فى فترة من النضال بالغة الحساسية، وكان هذا من جانبه اختبارا شخصيا، ومن بعده لا أملك هذا الحق بالنسبة لغيره، كما أننى لا أستطيع أن أبقى على رأس وزارة الإرشاد تعبيرا عن نفسى فمكان ذلك الصحيح هو «الأهرام» وحدها، وليس أى مكان آخر غيره، وجزء كبير من مهمة إعادة تنظيم «الإرشاد القومى» تم بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون العربى وبالدراسات المعدة فى شأن «الهيئة العامة للاستعلامات»، وغيرها من مؤسسات الوزارة.
إننى لم أعد أستطيع بكل ما أحس به الآن، التوفيق بين وزارة الإرشاد والأهرام، واستطعت ذلك بجهد جهيد لبعض شهور، لكننى الآن أجد أن ذلك سوف يكون مستحيلا بالنسبة لى، وإذا كان لى أن أختار والخيرة لله، فإنى أوثر أن أبقى فى المكان الذى أسهمت مع آلاف من أبنائه فى تحويله إلى إطلالة مصرية على العصر الحديث، وكان ذلك ولكى أكون منصفا للتاريخ بتشجيع معنوى كبير منه «عبد الناصر» وبإلهام مضىء.
إننى أعتقد أن على مسؤولية أتحملها أمام الأجيال، فلقد اقتربت من فكره وعمله ولا بد أن أعيد ترتيب أوراقى وذكرياتى عنه، لأننا نحن الذين عرفناه عن قرب وشرفنا بالوقوف حيث تمكنا من رؤيته - وهو يحلم ويناضل ويحقق - لا نملك وحدنا قصة حياته، فهذه القصة ملك لشعبنا ولأمتنا العربية وللإنسانية، ولعلك تذكر مرة أيها الصديق الكريم، وكنا معا أخيرا فى فندق هيلتون أثناء أزمة الأردن «أحداث أيلول الأسود» التى كانت آخر معاركه المنتصرة، أننا تحدثنا عن التاريخ، وكيف سيروى حكاية هذا العصر، وتذكر أنه أمامك وأمام السيدين حسين الشافعى وعلى صبرى أشار إلىّ وقال: «إنه هو المسؤول عن ذلك، لقد كان يعرف كل شىء، وهو يتحدث دائما عن الإحساس بالتاريخ والكتابة صناعته».
ومن جانبى أيها الأخ الكريم، أعتبر تلك وصية يسألنى عنها ضميرى، ويسألنى عنها الضمير العام لأمتى، وليس معنى ذلك أننى أفكر فى النشر العاجل، فأنا أول من يقدر أن هناك أشياء لم يحن أوانها، ولكنى بأمانة المسؤولية أمام ذكراه الغالية لا أستطيع أن أترك شيئا للضياع أو النسيان، إننى أرجو من كل قلبى ألا تعتبر هذا تخليا فى وقت عصيب، إنك تعلم أن ذلك لا يمكن أن يخطر ببالى، فأنت الرجل الذى اختاره هو بنفسه نائبا له فى وقت علم فيه أنه معرض لمخاطر مؤامرات خطط لها الذى تصدى طوال عمره لمطامعهم وسيطرتهم على مقدرات أمته، وذلك الاختيار وحده يكفى ليس بالنسبة لى وحدى وإنما بالنسبة لكل الذين تراودهم اليوم أعظيم الآمال بأن يستمر الخط الذى رسمه لأمتنا سواء لمرحلة النصر أو لما بعد النصر بإذن الله.. إننى أناشدك أن تعرف فى النهاية أن قلبى معك، وعقلى معك بكل ما أستطيع دفاعا عن مبادئه وعن سياسات أجراها نابعة من تلك المبادئ».
رد السادات بخط يده فى نهاية نص هذا الخطاب، قائلا: «لا يسعنى إلا أن أجيبك إلى طلبك أيها الصديق، واثقا أن جهدك وقلمك سوف يظلان كما عودت زعيمنا الراحل أن يكون فى مكانهما من معركتنا المقدسة».