كان الوالى سعيد باشا مستلقيا على سريره وهو يقول لوزيره «ذوالفقار»: «من يقول إنكم منذ عدة أشهر فقط كنتم تتحركون مثل النمل؟ ثم انتابته نوبة من الزغطة، قال بعدها: «هذه علامة سيئة»، حسبما يذكر وزيره ومستشاره «نوبار باشا» فى مذكراته، مضيفا: «كان ذوالفقار من كثرة ما تعود على موافقته فى أى شئ يرد بلا وعي: نعم سيدى».
كان «سعيد باشا» فى لحظاته الأخيرة وعمره 42 عاما، قضى منها ثمانى سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام حاكما لمصر، ويراه الدكتوزين العابدين شمس الدين نجم فى كتابه «مصر فى عهدى عباس وسعيد»: «تحسب له محاولته ترقية أحوال المصريين ونشر العدل فيما بينهم، وعدم ميله الى الأتراك، وقوله إنه يتمنى التخلص من آخر نقطة دم فاسدة فى عروقه التركية الشركسية، لكنه كان ضعيف الإرادة أمام الأجانب الذين استغلوا ذلك، ما أدى الى عدم المحافظة على مصالح الدولة، وكان سريع الغضب، سريع العفو»، ويتذكر نوبار لحظة لقائه به قبل سفره إلى باريس، قائلا: «رأيت سعيد المرِح غير المكترث أبدا بأى شىء يبكى، تأثرت وسألته عن سبب آلامه فقال: خربت مصر، خربتها تماما، ماذا سيقولون عنى؟».
يروى «نوبار» دراما موت سعيد بالسرطان وكان شاهدا عليها، قائلا، «إنه فى أيامه الأخيرة لم يستطع البقاء فى مكان واحد، وذهب إلى الإسكندرية للإقامة لكن ليس فى القصر الذى تقيم فيه زوجته، وإنما فى كوخ ملحق يبلغ مساحة منزل ومكون من طابق واحد، ويقع فى ركن بالحديقة، ولما ازداد ضعفه لازم الفراش، وكانت أبواب حجرته مفتوحة على مصراعيها، والناس يدخلون إليها ويخرجون وسط ضوضاء وصخب».
يضيف «نوبار»: «أجريت جراحة لاستئصال ورم جديد بعد جراحة أخرى، وفحصه ثلاثة من أشهر أطباء الاسكندرية، فاكتشفوا من التحاليل وجود كوليسترول وسكر، والأمل فى الشفاء ضعيف جدا»، ويؤكد «نوبار»: «كان الكوخ ممتلئا بالناس، والضوضاء تعم، بشكل كان يمكن سماعها بالخارج، وصعد أحد الأطباء إلى الوالى ثم نزل ليخبر زملاءه بحالة المريض التى تنتابه سكرات الموت، وبعد قليل أخبرونا أن سعيد لفظ أنفاسه الأخيرة» فى صبيحة 18 يناير، مثل هذا اليوم، 1863.
يتذكر «نوبار»: «تجمع الموظفون وكتبوا لإسماعيل باشا فى القاهرة يسألونه التعليمات، فدعاهم جميعا للحضور، ليتهافت الجميع إلى أول قطار دون ترك أى أوامر وإجراءات بخصوص الدفن، وكان محافظ الإسكندرية وحده على رأس الجنازة التى لم يشترك فيها أحد من الموظفين، وصاحب النسيان واللامبالاة الكاملة سعيد الى القبر».
كان هناك من يترقب لحظة الموت لحصد المكاسب، وحسب إلياس الأيوبى فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا»، فإن العادة جرت على أن ينعم الوالى الجديد بلقب «بك» إلى من يأتى إليه بخبر اعتلائه العرش، وإذا كان حامل هذا الخبر من «البكوات» فينعم عليه الوالى بلقب «باشا»، ولهذا كان هناك من يترقب موت سعيد باشا لإبلاغ إسماعيل الذى سيخلف عمه، ويذكر «الأيوبى» أن «بسى بك» مدير المخابرات التلغرافية لم يغادر عمله 48 ساعة ليحمل خبر الوفاة إلى الأمير إسماعيل، غير أن النوم غلبه بعد يقظته 48 ساعة، فاستدعى أحد صغار موظفى مصلحته، وأمره بالجلوس إلى جانب عدة التلغراف حتى ينام قليلا، وشدد عليه أن يقوم بإيقاظه فور تلقيه إشارة من الإسكندرية تفيد بانتقال محمد سعيد باشا إلى «دار البقاء»، ووعده بجائزة خمسمائة فرنك مقابل ذلك، فأظهر الموظف الصغير انصياعه.
كان الموظف يعلم تماما مقدار الجائزة، فعقد عزمه على الفوز بها، وفى منتصف الليل بين اليوم السابع عشر والثامن عشر يناير 1863، وردت البرقية، فحملها مسرعا إلى سراى الأمير إسماعيل، وطلب المثول بين يديه، وكان إسماعيل جالسا فى قاعة استقباله، سهران يحيط به رجاله، فلما رفع إليه طلب ذلك الموظف أمر بإدخاله حالا.
يصف «الأيوبى» المشهد فى السراى فور دخول الموظف قائلا: «جثا الرجل أمام إسماعيل باشا، وسلمه البرقية، فقرأها إسماعيل، ونهض والفرح على محياه، فوقعت الإشارة من يده، وشكر الله بصوت عال على ما أنعم به عليه من رفعه إلى سدة مصر السنية، ثم ترحم على عمه ترحما طويلا، فشاركه رجاله المحيطون به فى فرحة، وتصاعدت دعواتهم له بطول البقاء ودوام العز، ونظر إسماعيل إلى الموظف الجاثى أمامه، وتبسم وقال: «انهض يا بك»، وحباه نفحة من المال وأذن له بالانصراف». عاد الموظف إلى مصلحة التلغرافات، وأيقظ «بسى بك» وسلمه البرقية، فتناولها وقرأها ثم فتح كيسه بسرعة وأعطاه المبلغ الذى وعده به، وأسرع إلى سراى «إسماعيل، ولما دخل عليه، وعرض عليه الإشارة قابله إسماعيل بفتور، وقال: «أصبح لدينا خبرا قديما»، فأدرك الرجل أن الموظف خانه وسبقه ثم ضحك عليه واستخلص منه خمسمائة فرنك، فاستشاط غضبا، وعاد إلى مصلحته، واستدعى ذلك المكير الخائن، واندلث عليه، فأوقفه الموظف عند حده قائلا: «صه، فإنى أصبحت بك مثلك».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة