كان وزير خارجية مصر محمد إبراهيم كامل فى غرفته بمنتجع كامب ديفيد بأمريكا، عندما دخل إليه السفيران أحمد ماهر وأحمد أبو الغيط «وزيرا الخارجية فيما بعد» صباح 16 سبتمبر، مثل هذا اليوم، عام 1978، لاصطحابه إلى الإفطار فى المطعم، فقال لهما إنه لا رغبة له فى الطعام لأنه أفرط فى التدخين طوال الليل، حسبما يذكر «كامل» فى مذكراته «السلام الضائع»، ويكشف فيها أسرار مفاوضات الوفدين، المصرى برئاسة السادات، والإسرائيلى برئاسة مناحم بيجين، وبرعاية الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، للتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد.
انصرف أبوالغيط وماهر إلى المطعم، ويتذكر كامل: «بعد برهة عاد أبوالغيط يحمل صينية صغيرة عليها سندوتشان من الجبن وكوب من الشاى وبرتقالة وإصبع موز، وكنت لا أزال فى سريرى فشكرته ولكنه ظل واقفا أمامى لا يتكلم، فقلت له: ما بالك؟، فقال: لا تؤاخذنى يا محمد بك، فأنت رئيسى ووزيرى وأنا بعد شاب صغير، ولكنى أشعر وأحس تماما بما يعتمل فى نفسك، وإذا أذنت لى فإنى أريد أن أقول: «لا تعذب نفسك ودع القلق، والجميع يعلم ويقدر إخلاصك وكل ما فعلته، ولن يستطيع أحد أن يلومك على شىء»، قلت: «شكرا يا أحمد لا تقلق بشأنى وأنا أعلم ما سأفعله، اذهب وأكمل إفطارك، وتركته وذهبت إلى الحمام لأغسل وجهى».
يضيف كامل: «فى الساعة الحادية عشرة ذهبت إلى استراحة الرئيس السادات، وكان جالسا فى التراس ومعه الدكتور بطرس غالى والدكتور أشرف غربال، وجلست معهم نتبادل أحاديث خفيفة إلا أن بقاءهما طال، وكنت أتوق إلى انصرافهما حتى أتكلم مع الرئيس على انفراد، وأخيرا دخلت إلى صالون السادات الذى ينفتح على التراس، وأصبح ظهر السادات لى فلوحت لأشرف بيدى بإشارة كى يأخذ بطرس غالى وينصرفا ثم عدت وجلست، وبالفعل بعدها بدقائق قام أشرف واستأذن من الرئيس فى الانصراف وصحب بطرس غالى ومضيا».
يكشف كامل: «حملت مقعدى بالقرب من حيث يجلس السادات وقلت فى هدوء: «أرغب فى أن أتحدث إليك لا بوصفى وزيرا للخارجية يتحدث إلى رئيس الجمهورية، ولكن بوصفى صديقا وأخا أصغر لك، أكلنا معا العيش والملح فى السجن منذ ثلاثة وثلاثين عاما «اتهامهما سويا فى قضية اغتيال أمين عثمان عام 1946»، وأنت تعلم مدى إخلاصى لك وللحق، وإنى حريص على ألا تقدم على شىء تندم عليه فيما بعد».
رد السادات بصوت هادئ: «وهل بينى وبينك حجاب يا محمد؟ قل ما تريد ولا تتردد»، فقال محمد: «اطلعت على المشروع الذى قدمه لك أمس الرئيس كارتر بإطار السلام، ووجدته بعيدا كل البعد عن تحقيق السلام الشامل الذى نستهدفه والذى حددت معالمه بحق ووضوح فى خطابك بالكنيست الإسرائيلى عند زيارتك للقدس «19 نوفمبر 1977»، فالمشروع الأمريكى رسم الطريق إلى سلام كامل بين مصر وإسرائيل مستقلا تماما عما يجرى فى الضفة الغربية وغزة، فلا رابطة بينهما تضمن التزامن بين حل مشكلة سيناء وحل المشكلة الفلسطينية وهى الأصل، وستكون النتيجة أن ينتهى الأمر إلى معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل، بينما تبقى الضفة الغربية وغزة تحت قبضة إسرائيل تمارس فيها تنفيذ تخطيطها لضم هذه الأراضى فى النهاية».
استطرد كامل، فى توضيح رأيه للسادات، وكان الرئيس يرد أولا بأول كقوله: «إنك لا تعلم شيئا عن العرب، اسألنى أنا إنهم لو تركوا وشأنهم فلن يحلوا أو يربطوا، وسيظل الاحتلال الإسرائيلى قائما إلى أن ينتهى إلى التهام الأراضى العربية المحتلة، دون أن يحرك العرب ساكنا غير الجعجعة وإطلاق الشعارات الفارغة، كما فعلوا منذ البداية ولن يجمعوا على حل أبدا».
توجه كامل برجاء للرئيس أن يعيد النظر فى الأمر، قائلا: «لنعد إلى مصر، وتجرى مشاورات مع الدول العربية لنرى ماذا تكون خطوتنا التالية، فرد السادات: «لا، أنا أعلم ما أفعله، وسأمضى فى مبادرتى إلى النهاية، فرد كامل: إذن فأرجو أن تقبل استقالتى، رد السادات: كنت أعلم من البداية أنك تلف وتدور لتقول هذا فى النهاية، فرد كامل: لقد حاولت إقناعك بما أراه وفشلت، فأنا لا أستطيع أن أوافق على شىء يبدو لى من المؤكد خطوة خطرة، وأنا لا أستطيع أن أغشك وأغش نفسى وضميرى، فإنه كامن داخلى يعيش معى ليل نهار، قال السادات: إذا كان هذا يريحك فإنى أقبل استقالتك وكل ما أطلبه منك هو أن تدعها بيننا فى الوقت الحالى ولا تخبر أحدا بأمرها حتى نعود إلى مصر».
وافق كامل على طلب السادات، وغادره، ويؤكد أنه عندما أوى إلى فراشه مساء فى غرفة نومه مع بطرس غالى، قال له غالى: «حالتك غير طبيعية هذا المساء فأنت تبدو هادئا سعيدا، فماذا جرى بينك وبين الرئيس، فرد كامل: «هذا سر بينى وبينه».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة