"كنت بشتقلك.. بينى وبينك خطوتين" على شجن الست أم كلثوم وبتلك الكلمات التى تحمل فى طياتها الكثير من المعانى بدأ العرض المسرحى "بعيد عنك"، الذى قدم على مسرح مركز الإبداع الفنى للمخرج محمد عبد الستار، وتحت إشراف المخرج الكبير خالد جلال، فى حجرة نوم شريف وسالى، كانت تستمع سالى لتلك الكلمات وقد رسم على ملامحها مشاعر الحزن والحب والاشتياق، ثم فجأة تنفجر فى البكاء، ليستيقظ شريف مفزوعاً ولكن يبدو أنها ليست المرة الأولى التى يفزع فيها شريف.
"لو بس كان سألنى مالك" كانت تلك هى كل طموحات سالى قبل أن تدب المشاجرة بينها وبين زوجها شريف، فسالى زوجة تشبه الكثير منا كل متطلباتها فى الحياة أن يهتم بها زوجها، أن تشعر أنها من أولوياته، أن يشاركها اهتماماتها من قراءة روايات أو سماع موسيقى، وشريف كذلك يشبه الكثير والكثير من الأزواج الذين تحولت حياتهم للتفكير فى مسئوليات العمل والبيت معاً، يفكر بشكل عقلانى يرى أن الاهتمام بالزوجة هو أن يوفر لها احتياجاتها، ليس لديه وقت لتدليلها، ولا يشعر بأى تقصير نحوها، فأى تقصير الذى سنتحدث عنه وهو يرى أنه يفنى حياته من أجلها هى وأولاده، خاصة أنه يعمل مهندس معمارى ومسئول عن الكثير من الأرواح، وأثناء المشاجرة تشعر لوهلة أنك شاهدت هذا المشهد من قبل أو ربما كنت طرفا من أطرافه ذات يوم، انتهت تلك المشاجرة بطلب الطلاق من سالى وذهاب شريف لإحضار المأذون، فهل كانت سالى حقاً تريد الطلاق؟ جاءت الإجابة على ملامحها عندما دخلت عليها نورا مدبرة المنزل تلك الشخصية التى تبدو أنها لا تحب شريف، حتى أنه عندما أبلغتها سالى بأنها طلبت الطلاق فرحت فرحاً شديداً ولكن ملامح سالى الحزينة جعلتها تتراجع عن إظهار هذا الشعور.
وعندما كانت سالى تنتظر شريف بالمأذون تسلل إلى غرفتها شخص غريب، اعتقدت سالى أنه لص ولكنه فاجأها بأن كل متطلباته أن ينام لمدة ساعتين لأن كلبه ينام مكانه على السرير، ويتحول تارة لسباك ولمأذون ولمحامى، حتى نكتشف فيما بعد أنه جارهم الذى لديه مشكلة مع الوحدة، وأثناء حديثها معه تذكرت أنها لا بد أن تبلغ أحداً من أهلها ليقف بجانبها فى تلك اللحظة، ففكرت فى مهاب، ابن خالتها والتى تعلم جيداً أنه يحبها من الطفولة، فهل اختيارها لمهاب كان محضاً للصدفة لأنه الوحيد فى عائلتها الذى يستيقظ مبكراً، فى اعتقادى أن الإجابة لا، فكانت تريد أن يدب الغيرة فى قلب شريف عندما يرى مهاب، فلا نستطيع أن ننكر أنها ما زلت تحب شريف حتى لو أفصحت له بعكس ذلك، وبالفعل أتى مهاب مسرعاً بعد علمه بقرار طلاقها، فهو طيار وله نزوات كثيرة وهذا ما اتضح من خلال حواره.
لم يأت شريف وحده بل أتى معه خاله جابر، لحل مشكلته مع سالى، ومن خلال الأحداث نكتشف أن جابر نفسه لديه مشكلة كبيرة مع زوجته وهى مشكلة الثقة، هى لا تثق فيه أبداً، ودائما تتهمه بالتقصير، وخلال مشكلة جابر يضع شريف وسالى يدهم على مشكلتهم الحقيقية، كل منهم يرى الموقف بعينه، وبرغم محاولات مهاب إلا أنه يرى فى عين سالى حبها لشريف ويقرر مساعدة شريف بأن يعطيه الرواية التى أحضرها هدية لسالى حتى يقرب بينه وبينها، فقد أصبح على يقين أن سالى لن تصبح له يوماً، ولا نستطيع إغفال فرد الأمن عبد العزيز الذى كان دخوله على المسرح مبهج بل كان ينتظره الجمهور فى كل مرة.
بعد سرد الحدوتة تبدو وكأنها حدوته تراجيدية، فلك أن تتخيل أن كل ذلك قدم بشكل كوميدى، ولكن ليست كوميديا مبتذلة بل كانت كوميديا موزونة كما يقال، كوميديا خرجت من قلب الموقف، وتلك الموازنة تحسب للمخرج محمد عبد الستار الذى قدم لنا لوحة رائعة لا تشعر فيها بالملل للحظة، بل ترى نفسك أو جارك أو قريبك أو صديقك فى مشكلة مما قدمت، فمسرحية بعيد عنك مستوحاة من مسرحية "ليلة ساهرة من ليالى الربيع" للكاتب الإسبانى إنريكى بونثلا، كما يحسب للمخرج كذلك اختياره للممثلين فكلاً وضع فى مكانه بالضبط، لدرجة أنك تشعر أنهم يقدمون شخصياتهم الحقيقية، فالكلام عن الممثلين يحتاج لصفحات وصفحات ولكن دعونا بكلام قليل نصل حجم موهبتهم الكبيرة جداً.
فلنبدأ بشريف الذى قدمه محمد الدمراوى، فالحقيقة هو موهبة كبيرة تستحق الإشادة، استطاع أن يقدم الدور بسلاسة ولأن دوره لم يكن فيه مساحة كبيرة من الكوميديا، لكنه استطاع أن يخلقها من قلب المواقف الجادة، ومن مميزات الدمراوى أنك عندما تراه تشعر وكأنك تعرفه وهذا الشعور يخلق حميمية بينه وبين المتلقى، وهذا ما حدث فى العرض الذى كدنا أن نتعاطف معه بالرغم من وجود تقصير بشكل أو بآخر من جانبه، أما سالى التى قدمتها هدير الشريف، فهذه ليست المرة الأولى التى أراها على المسرح، وفى كل مرة تثبت هدير موهبتها بجدارة، وبرغم ملامحها البريئة إلا أنها أحيانا تتمرد عليها فى تقديم أدوار لا تشبهها، فهى موهبة تستحق كل الاحترام، أما أمجد الحجار فقد استطاع تقمص أكثر من شخصية فى العرض فهو اللص والسباك والمأذون والمحامى، وفى كل مرة يقنعك بوظيفته بأدائه المتقن، حتى تكتشف فى النهاية أن مجرد جارهم الذى لديه مشكلة الوحدة، وأمجد لديه من الحس الفكاهى الذى يجعلك تبتسم بمجرد أن يبدأ فى الحديث.
أما جابر الذى قدمه وليد عبد الغنى، فالحقيقة لم أتذكر أننى ضحكت من قلبى بهذا الشكل فى عرض مسرحى من قبل إلا مع كوميديا وليد عبد الغنى، فهو كوميديان من العيار الثقيل كما يقولون، ولم يخلق إفيهات زائدة بل على العكس فكلها خرجت من المواقف نفسها، قدم الدور باحترافية ومهارة وخبرة ممثل له باع طويل فى المسرح، وكذلك فى التليفزيون، ومهاب الذى لعبه أحمد الشاذلى، الذى يجعلك للحظة تشك أنه بالفعل طيار، ومن وبالرغم أنه من المفترض أن ينفر منه الجمهور على اعتبار أنه شخص شرير ولكن لن نستطيع كرهه، فكانت الكوميديا معه مختلفة كذلك، بجانب اللحظات الإنسانية والذى قرر فيها مساعدة شريف ليستحوذ على قلب سالى، وريهام سامى التى قدمت دور الخادمة نورا، فالحقيقة أن مساحة دورها جعلتها تثبت إمكانياتها كممثلة، فكان هناك العديد من التحولات فى الشخصية كما كان هناك مناطق جادة وأخرى كوميدية، ومشاعر مختلفة قدمتها كلها ببراعة، وأخيرا وختامها مسك بعبد العزيز أو كما يطلقون عليه أصدقاؤه زيزو، كان دوره بمثابة "بونبوناية" العرض، فحقيقى كنا ننتظر دخوله وننتظر الإفيه منه، وحركة الجسد وكذلك ريأكشناته الذى يعبر فيها عن الموقف بسهولة.
وفى النهاية أود أن أشكر المخرج محمد عبد الستار على تقديمه مثل هذا العرض الذى يعرض مشكلة من أهم المشاكل التى تواجه الأزواج، ولم يكتف بعرض المشكلة بل وضع خيط لحلها، كل ذلك من خلال قالب كوميدى، والشكر كذلك موصول للمخرج الكبير خالد جلال لتقديمه تلك المواهب الكبيرة التى نتعطش لوجودها من خلال بيتهم الثانى مركز الإبداع الفني.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة