رحلة طولها 400 كيلو متر تقريبا، قطعناها من القاهرة لمحافظة أسيوط، وتحديدا بجزيرة النخيلة بمركز أبو تيج، موقع المعركة الشهيرة، بين الشرطة وأحد أخطر أباطرة المخدرات فى مصر "عزت حنفي" قبل 20 سنة من الآن، حيث جرت تحولات وتغيرات كثيرة طرأت على "الجزيرة" بعد خُمس قرن من الزمان.
فى طريقنا للجزيرة، استرجعنا مشاهد الفيلم العربى الأشهر "الجزيرة" للمخرج الكبير شريف عرفة والمؤلف محمد دياب والنجم الكبير أحمد السقا، والذى جسد قصة الجزيرة، مع وجود بعض المعالجات الدرامية، حيث تم انتاج الفيلم فى 2007، والذى سرد بأسلوب درامى للمشاهدين قصة تاجر المخدرات الأبرز.
قبلها بعام تقريبا كان مسلسل حدائق الشيطان للفنان الكبير جمال سليمان والمخرج العبقرى إسماعيل عبد الحافظ تعرض لقصة عزت حنفى الذى حول منطقته لقلعة حصينة يمارس نشاطه فى ترويج المخدرات وزراعة الحشيش من خلال تواجده فى البلدة الحصينة.
القرية نفسها تعرضت لها الدراما قبل ظهور "عزت حنفي" واشتهاره بتجارة المخدرات، وتحديدا فى عام 1968 من خلال الفيلم العربى الأشهر "البوسطجي" مأخوذ عن رواية البوسطجى للكاتب يحيى حقى، وبطولة شكرى سرحان وزيزى مصطفى وصلاح منصور، حيث يحكى الفيلم عن عباس البوسطجى طشكرى سرحانط الذى ينقل حديثا من القاهرة إلى قرية كوم النخل بأسيوط ليعمل ناظرا لمكتب البريد، وهناك يعانى من جفاء معاملة أهل القرية له.
"الجزيرة" بعد 20 سنة من تطهيرها
ورغم أن الدراما نقلت صورة حية للمشاهد عن هذه القرية وما دار فيها من أحداث صعبة، إلا أن الواقع يبقى مختلفا إلى حدًا ما عن الدراما.
20 سنة، مرت على اقتحام الجزيرة وتطهيرها من تجارة المخدرات التي كانت منتشرة بها، وسقوط أشهر تاجر مخدرات بالصعيد، إذا ماذا حدث بعد مرور هذا الوقت؟ وكيف أصبحت الجزيرة الآن؟.
أسئلة، حاولنا الإجابة عنها من أرض الواقع، لتطأ أقدامنا هذه المنطقة التي درات عليها معركة شرسة قبل سنوات من الآن، حيث تغير كل شيء هنا، فقد تحولت زراعات المخدرات لزراعات قمح وذرة ونخيل، واستبدلت حدائق الشيطان بفواكهة وزهور.
مجرد أن تقترب من الجزيرة، وأنا قادما من مدينة أبو تيج التي تنتمي إليها الجزيرة، ترى حولك زراعات النخيل المتراصة على الجانبين فى مشهد رائع يخطف القلوب، ويحير العقول، حيث النخيل واقفا شامخا فى السماء وكأنها لوحة فنية رائعة.
منازل النخيلة بعد التطوير
منازل القرية متراصة وشوارعها ضيقة إلى حدًا ما، لكن طالها يد التطوير، لا سيما بعد مبادرات مؤسسات المجتمع المدنى بإعمار قرية النخيلة قبل سنوات من الآن، حيث التحديث والتطوير يظهر على منازل القرية، والمدارس والمبانى الخدمية تتوسطها، فكل شيء هنا متاح ومتوفر.
مدخل النخيلة
"لافتة" قد ظهر عليها عوامل الزمن، مكتوب عليها "قرية النخيلة" على طريق مصر ـ أسوان الزراعى، تبدأ من عندها رحلتك داخل القرية، حيث خطوات المواطنين متسارعة، فالجميع في دأب، يتحرك الأهالى سريعا بين الحقول ومنازلهم، فترى "عربات كارو" تسير محملة بـ"البرسيم" وأخرى عليها فواكهة، وما بين بعض المحال الصغيرة المنتشرة بالقرية.
تحدث الأهالى عن العشرين عاما الماضية، والتحولات التي حدثت بالمنطقة، فكل شيء تغير تماما هنا، هكذا يتحدث "عبد الصبور" أحد الأهالى، قائلا: "موضوع عزت قصة قديمة وانتهت .. دلوقتى الكل مشغول بأكل عيشة، وعزت كان استثناء مش قاعدة، والناس هنا زى الفل.. وما كانتش راضية على اللى بيحصل".
وحول زراعات المخدرات ومصيرها، يقول "عبد الصبور": الأمر انتهى، نحن الآن مشغولنا بزراعة الذرة والقمح والفواكهة، فمهتنا الأساسية الزراعة، ونحاول نطور من أنفسنا، والأمور تسير للأفضل، والناس تعيش حياة هادئة آمنة هنا، وما حدث قبل 20 سنة من الآن، أصبح حكايات وذكريات نرويها للأطفال".
وحول النشاط الذى يعمل به الأهالى غير الزراعة، يقول :"محمد عبد الرحمن" أحد الأهالي: معظم الأهالي يعملون بالزراعة، لكن البعض يعملون في مجال تربية الدواجن والبط، وهو استثمار مربح، وجد القائمون عليه فيه مكاسب مادية".
صورة نادرة لعزت حنفي
منزل عزت حنفي
وعن عائلة "حنفى" وما جرى لها بعد 20 سنة، يقول أحد الأهالى ـ رفض ذكر اسمه ـ : منزل "عزت" مازال موجودا للآن، ويوجد به آثار الاقتحام، وعائلته تعيش بيننا بشكل طبيعى، ويتمتعون بصفات حميدة، فقد كان "عزت" استثناءً وليس قاعدة، وما فعله عوقب عليه وانتهى الأمر، ولا علاقة لأحد به.
وحول ظهور زراعة المخدرات مرة أخرى بنفس الطريقة بالمنطقة، قال:" فى الجزيرة لا يوجد أى زراعات للمخدرات، ولكن ظهر نفس الأمر منذ أيام قليلة فى منطقة قريبة، داخل جزيرة نيلية تابعة لإحدى قرى مركز شرطة أبنوب بأسيوط، حيث ضبطت الشرطة 16 عنصرا إجراميا بحوزتهم 6.5 طن لمخدر البانجو، و10 أفدنة مزروعة بنباتى الأفيون والبانجو المخدرين و16 بندقية آلية و51 خزينة وعدد كبير من الطلقات النارية، بقيمة 36.5 مليون جنيه، وفقا لبيان وزارة الداخلية.
أهالي قرية النخيلة
حكايات الأهالى للأبناء عن عزت حنفى متضاربة، ما بين أشخاص يرون أنه كان خارجا عن القانون، وآخرين يرون أنه كان محبوبا ويسير على طريقة "أدهم الشرقاوي"، لكن الجميع يتفقون على بداية قصة صعوده بعد مقتل خمسة أشخاص فى نزاع بين عائلتين فى القرية، حيث حاصرت قوات الشرطة جزيرة "حنفى" لمدة 7 أيام، فاحتجز "عزت" عددا من الرهائن، لكن الشرطة داهمت المكان فى أول مارس 2004 واستخدمت أكثر من خمسين عربة مدرعة وستين زورقا نهريا وما يزيد على ثلاثة آلاف جندى وضابط من القوات الخاصة.
حصون عزت حنفي
وفقا للأهالى: بنى "عزت" حصونا فى كافة أنحاء جزيرة النخيلة بعدة أشكال، منها الأبراج، التى ترتفع أحيانا إلى خمسة طوابق، ومنها الدشم الحصينة التى بنيت من الطوب اللبن، الذى لا تستطيع طلقات الرصاص اختراقه، كما حفروا عدة خنادق تحت الأرض تمكنهم من إطلاق الرصاص على أى قوات مهاجمة، وإضافة إلى هذه التحصينات، كان رجال "عزت" يمتلكون كمية هائلة من الأسلحة والذخائر، تتدرج من المسدسات والبنادق العادية والآلية، إلى المدافع من طراز جيرنوف، التى يبلغ مداها أكثر من سبعة كيلومترات، وتطلق قذائف من عيار نصف بوصة.
قدرت الشرطة أعداد هذه المدافع فى النخيلة بحوالى ثمانية مدافع وكان الممول الأساسى لهم شخص يدعى "أبو وردة".
وزيادة فى التحصين، نصب رفاق "حنفى" أسطوانات غاز البوتاجاز على الأسوار وعلى جذوع النخيل توطئة لتفجيرها إذا ما أقدمت قوات الأمن على اقتحام مواقعهم، أما نهر النيل، فقد ملأوه بالأسلاك الشائكة والعوائق الصناعية حتى لا تتمكن الزوارق النهرية من الالتفاف حولهم وكان معهم عدد كبير من الرجال.
وأثناء الحصار، تحدث عزت حنفى عبر الهاتف إلى إحدى القنوات الإخبارية العربية، وقال أن السلطات ترغب فى التخلص منه على الرغم من أنه ساعدها من قبل خلال انتخابات مجلس الشعب قبل عدة سنوات، موضحا أنه ساعد السلطات فى حربها ضد الإرهاب خلال التسعينات التى شهدت نشاطا كبيرا للجماعات الإسلامية فى أسيوط والصعيد بشكل عام، مؤكدًا أنه قتل أعداد كبيرة من الإرهابيين وأن مسئولين بالدولة وقتها أمدوه بالسلاح، على حد زعمه وقتها.
اقتحام جزيرة حنفي
نجحت الشرطة فى اقتحام حصون "حنفي" وتحرير الرهائن، وسقوط 77 من أفراد العصابة فى أيدى رجال الشرطة وفى مقدمهم عزت حنفى، الذى حاول الهرب على "حمار" بمساعدة حبيبته، لكنه سقط فجأة من الحمار فتعامل معه رجال الشرطة باطلاق الرصاص عليه، ليسقط مصابًا ويتم نقله للمستشفى.
حكم الإعدام على عزت حنفي
وصدر حكم على "عزت حنفى" بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم فيه وشقيقه حمدان فى سجن برج العرب بالإسكندرية فى الساعة السادسة من صباح من يوم 18 يونيو 2006، وتم دفنهما فى مسقط رأسهما فى قرية النخيلة.
أسرار اللحظات الأخيرة فى حياة عزت حنفي
التقيت "عشماوى" الذى نفذ حكم الاعدام فى "عزت حنفي"، فتحدث عن أسرار اللحظات الأخيرة فى حياة إمبراطور المخدرات، قائلا:" نفذت حكم الإعدام فى حق العشرات من المواطنين بحكم طبيعة عملى، وكان المشهد الأخير متشابها إلى حدًا ما، حيث يلجأ المذنبون للبكاء والخوف والرعب، لدرجة هناك "من يعملها على نفسه"، إلا شخص واحد "عزت حنفى" فقد كان له قصة مختلفة لم أر مثلها طوال سنوات عملى".
وأضاف حسين قرنى "عشماوي" فى لقاء سابق لى :"نفذت 1070 حكمًا لكن إعدام عزت حنفى كان غريبا، فقد ذهبت يومها مبكرا لتجهيز أدواتى، "الحبل" والتأكد من سلامة "اليد" الذى أسحبها لتنفيذ الإعدام، وتجهيز "الطاقية" التى توضع على الرأس، وبعدها حضر "عزت" قبل السادسة صباحا بدقائق، ومعه الفريق الذى يشهد وقائع تنفيذ الحكم كما هو متعارف عليه".
يضيف "عشماوي": "عزت كان متماسكا صلبا صامتا، لم يبك أو يفعل أى شيء، تحرك على قدميه بثبات شديد، وصولا لمكان التنفيذ، وكانت آخر كلماته، عندما سألوه السؤال الرويتنى: "نفسك فى ايه يا عزت قبل تنفيذ الحكم؟"، فرد: "بلغوا أقاربى يرجعوا كام فدان فى المنطقة كذا لفلان الفلانى كنت أخدتهم منهم، وجاموسة أخدتها من فلانية.. وعدد الأشياء"، وكتبوها خلفه، ثم سألوه: "فيه حاجة تاني؟"، فرد :لا شكرا، وردد: أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"، وكانت هذه أخر كلمات، ثم سحبت السكين فتعلقت رقبته فى الحبل فمات بعدها بدقائق، وسلمنا جثته لأقاربه، وعرفنا أنهم دفنوه فى مسقط رأسه بالنخيلة بناءً على وصيته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة