ذهب الموسيقار الشيخ زكريا أحمد إلى ملجأ العميان بالزيتون ليسمع صوتا جديدا قيل إنه معجزة، وكان فى ليلة الأربعين لرفيق عمره الشاعر بيرم التونسى، يوم 13 فبراير 1961، حسبما يذكر فى يومياته ضمن كتاب «زكريا أحمد» للكاتب الصحفى صبرى أبوالمجد، وكان ذلك آخر ما كتبه فى هذه اليوميات، حيث توفى فى اليوم التالى، 14 فبراير، مثل هذا اليوم، 1961.
مات الشيخ زكريا وعمره 65 عاما «مواليد 6 يناير 1896»، وبعد أن خلد اسمه كواحد من المجددين العظام فى تاريخ الموسيقى العربية، وحسب المؤرخ الموسيقى اللبنانى فيكتور سحاب فى كتابه «السبعة الكبار فى الموسيقى العربية»: «زكريا أحمد يمتاز دون غيره من الموسيقيين العرب الكبار بمزاجه الخاص ذى المقومات المركبة، وأول ما يخطر ببال معتنقيه أنه محافظ يعاند التطور والتبديل، وهذا تصنيف غير دقيق، لأنه طور شكلين من أهم أشكال الغناء العربى «الدور والطقطوقة»، وأسهم فى تطوير أشكال أخرى، دون أن يمس آلات الموسيقى العربية».
تمرد على الدراسة بالأزهر، وقضى فيه ست سنوات من السادسة إلى الثانية عشرة من عمره، وفقا لـ«أبوالمجد»، مضيفا: «تعلم القراءة والكتابة وأخذ نصيبه من العلم، كما أكمل حفظ القرآن الكريم وأتقن تلاوته بعذوبة صوته، وحفظ فى الأزهر القراءات السبع، وضايقه كثيرا رموز هذه القراءات، وحاول أكثر من مرة أن يعلن الحرب على هذه الرموز فلم يستطع، وفى الثالثة عشرة من عمره خرج من الأزهر إلى غير رجعة».
يضيف «أبوالمجد»: كان أحد المشايخ فى حجرة الدرس يفسر لطلابه حديثا جاء فيه، «من أكل منكم لحم جزور فليتوضأ»، فسأله «زكريا» عن معنى «جزور»، فقال الشيخ: «جزور يا ولد معناها الجمل الصغير»، فسأل «زكريا» شيخه: لماذا يتوضأ الإنسان يا سيدنا الشيخ بعد أكل لحم الجزور ولا يتوضأ بعد أكل لحم الجمل الكبير؟، فثار الشيخ واتهم زكريا بأنه يعترض على الأحاديث، وانهال عليه سبا وشتما وضربا، ولم يحتمل زكريا، فسحب مقلمة من النحاس وسددها فى وجه الشيخ، فسال دمه، ودخل «زكريا» القسم مقبوضا عليه بتهمة الاعتداء على الشيخ، وقرر زكريا ألا يدخل الأزهر مرة ثانية.
يذكر «أبوالمجد»، أنه بدأ يفكر فى مستقبله من زاوية جديدة، لماذا لا يصبح مقرئا للقرآن؟ ولماذا لا يصبح مطربا؟ وهو صاحب الصوت الجميل كما اعترف بذلك المشايخ الذين كانوا يدرسون له، وبدأت رحلته، فالتحق بفرقة الشيخ إسماعيل سكر المقرئ والمنشد ذائع الصيت، وفكر فى أن يلحن لنفسه واختار بعض القصائد الدينية ليلحنها، واتجه إلى ريف مصر ليسمعه الناس ويسمعهم.
كان اكتشافه لأم كلثوم هو أعظم اكتشافات جولاته الريفية، ويذكر هو قصة أول لقاء بها، قائلا: «كان ذلك فى عام 1919، ذهبت إلى السنبلاوين بصحبة الشيخ أبوالعلا محمد المقرئ والمغنى الشهير لإحياء ليلة من ليالى رمضان، ولم يسعدنى الحظ فى هذه الليلة برؤية هذه الفتاة الصغيرة، ولم تمر إلا أيام معدودة، ودعيت مرة أخرى إلى السهر، وفى هذه الليلة قابلتها، وكانت بصحبة والدها وشقيقها، واستمعوا لى واستمعت إليها، ففرحت وتنبأت لها بالمستقبل الكبير، ودعوتها إلى القاهرة فى حفل ضم مجموعة مختارة من أبناء العائلات ورجال الفن، ومن بينهم الشيخ أبوالعلا محمد والشيخ على محمود، وصادفت فى هذه الليلة نجاحا كبيرا، وتعرفت فى هذه الليلة بالأستاذ القصبجى والدكتور محمد صبرى».
تنوع عطاؤه العظيم للموسيقى، ويذكر الكاتب والشاعر عبدالقادر حميدة فى مقاله «مات شيخ الملحنين» بمجلة الكواكب، عدد 499، 21 فبراير1961: «لحن الشيخ زكريا 58 مسرحية، و36 فيلما و62 طقطوقة، و30 دورا و25 قصيدة، و65 توشيحا، و300 مونولوج، وأهدى إلى جيلين متعاقبين عبقريا خالدا كسيد درويش، وصوتا نادرا كأم كلثوم».
كان أحد أمراء الكلام والحكى والظرف، ويؤكد نجيب محفوظ أنه «من أظرف الشخصيات التى قابلها فى حياته»، ويصفه للناقد رجاء النقاش فى كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، قائلا: «ابن بلد، لطيف، حبوب، ابن نكتة، حكاياته لا تنته، حكاية تجرك إلى حكاية أخرى فى تسلسل عجيب، وترابط مذهل، قد يبدأ فى سرد حكايته الأولى فى التاسعة مساء، ويعود إلى نفس الحكاية فى الثالثة صباحا، وما بينهما عبارة عن استدراك وملاحظات».
يتعجب «محفوظ»: كنت أسأل نفسى: متى يعمل الشيخ زكريا ويتم ألحانه وهو يداوم على سهراته اليومية؟ واكتشفت أن لديه قدرة التلحين فى أى وقت، وأذكر أنه لحن أغنية «حبيبى يسعد أوقاته» لأم كلثوم، وهو يجلس معنا، وفى مرات عديدة كان يضع لحنين مختلفين لأغنية واحدة، ويعرضها علينا لنختار الأفضل، ولم يكن يحب القراءة، وربما كانت روايتى «زقاق المدق» هى الوحيدة التى قرأها، وأعجب بها للدرجة التى جعلته يعيد صياغتها ويحكيها أمامنا كأنه المؤلف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة