هبت على «إستانبول» رياح الخوف فور انتصار الجيش المصرى بقيادة إبراهيم باشا على الجيش العثمانى فى موقعة «قونية» بعد قتال استمر سبع ساعات يوم 21 ديسمبر 1832، وتحقق النصر رغم أن قوة الأتراك كانت ثلاثة أضعاف المصريين إلا أنهم كانوا أقل تدريبا، حسبما يذكر الدكتور عبدالرحمن زكى فى كتابه «التاريخ الحربى لعصر محمد على».
كان السؤال المطروح بعد هذا الانتصار: «هل سيمضى الجنرال المصرى حتى العاصمة إستانبول، فالطريق مشرعة، والرأى العام يقف إلى جانبه، والشعب ينتظره، وما من جيش يستطيع إيقافه، ويستولى الهلع على البلاط»، وفقا لما يذكره «جيلبرت سيونيه» فى كتابه «الفرعون الأخير- محمد على»، ترجمة «عبدالسلام المودنى».
يؤكد عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»: «كانت «قونية» من المعارك الفاصلة فى حروب مصر، لأنها فتحت أمام الجيش طريق الآستانة، إذ أصبح على مسيرة ستة أيام من البوسفور وكانت الطريق مخلاة، لا يعترضه فيها جيش، وارتعدت فرائض السلطان محمود الثانى بعد هذه الواقعة إذ رأى قوائم جيشه تهتز أمام قوات الجيش المصرى».
ويذكر الدكتور عبد الرحمن زكى: «انتهت معركة قونية بظفر رائع لا مثيل له، وأصبحت الأبواب التى تفضى إلى عاصمة الخلافة مفتوحة على مصراعيها، تستقبل جيوش مصر الغازية، وقد فقد السلطان جيوشه التى اعتمد عليها للقضاء على خصمه يلتف يمنة ويسره فلا يجد نصيرا سوى حلفائه الروس الذين يكرههم العثمانيون لأنهم أعداء ملتهم، منذ استولوا على إستانبول».
ويرى «زكى» أنه كان جديرا بالقائد العظيم إبراهيم ألا يعبأ بالمفاوضات والارتباكات السياسية ويواصل انتصاراته، حتى يدخل على رأس جيوشه المظفرة الآستانة، ويخضع السلطان محمود ويملى عليه إرادته، بينما يقتحم الأسطول المصرى المياه اليونانية ويعبر الدردنيل، وينزل قواته فى الثغور العثمانية وما وراءها، لكن ارتبط إبراهيم بعجلة والده السياسية».
أقام إبراهيم باشا شهرا فى «قونية»، يعيد تنظيم قواته عقب انتصاره الرائع، وفقا لزكى، مضيفا، أنه لم يستطع مواصلة مطاردة فلول الجيش العثمانى قبل وصول أوامر والده إليه، وكتب خطابا لأبيه فى 28 ديسمبر «مثل هذا اليوم» عام 1832 يقول فيه:
«أستطيع أن أصل إلى الآستانة ومعى محمد رشيد باشا «قائد الجيش العثمانى فى قونية، والذى أسره الجيش المصر»، وأستطيع أن أخلع السلطان حالا، وبدون صعوبة ولكنى مضطر أن أعرف، هل تسمح لى بتنفيذ هذه الخطة حتى أتذرع باتخاذ الوسائل اللازمة لأن مسألتنا لا تسوى إلا فى إستانبول، فالواجب أن نذهب إلى استانبول حيث نملى إرادتنا، وإنى مضطر أن أكرر على مسامعك أن الدعاوة لا توصلنا إلا أغراضنا، وإذا أنت رميت من الاشاعات التى تذيعها إلى غرض سياسى بأننا نهدد إستانبول لتقبل شروطنا، كان من العبث أن نقف فى قونية فلا نتقدم منها إلى الأمام، فإن قونية بعيدة عن رجال الآستانة فهم لا يقبلون عقد الصلح معنا إلا إذا دخلنا عليهم فى العاصمة، كذلك هم فعلوا مع الروس فإنهم لم يقبلوا إبرام الصلح معهم إلا بعد وصولهم إلى «ضلمبفجة» بضاحية استانبول، فالواجب إذن أن نواصل الزحف حتى «بروصة «على الأقل مع احتلال المدن الواقعة على بحر مرمرة، وجعل هذه المدن مراكز تموين لجيشنا فى البحر».
يواصل إبراهيم فى رسالته إلى والده: «حينئذ فقط نستطيع أن نذيع الأخبار التى قد تفضى إلى عزل السلطان، وإذا نحن نفلح فى إسقاط السلطان، توصلنا على الأقل إلى إبرام صلح يحقق أمانينا، وأننا لولا الأمرين الأخيرين اللذين تلقيتهما منك لكنت الآن على أبواب استانبول، وإنى لأسائل نفسى: ما هو الداعى الذى دعا إلى إصدار تلك الأوامر إلىّ، أهو الخوف من أوروبا؟ أم هو شىء آخر لا أعرفه؟ ألتمس منك أن تنيرنى فى هذه المسألة قبل انفلات الفرصة من أيدينا، نعم إنى ألتمس إبلاغى أمركم القاطع بهذا الصدد».
يؤكد «زكى» أن كتاب إبراهيم وصل إلى أبيه محمد على باشا، فسلم برأى إبراهيم وأذنه بالتقدم، وفى التو قام القائد على رأس جيشه فى 20 يناير 1833 وقد قسمه إلى شطرين، فوصل إلى كوتاهية فى 2 فبراير، وتحمل الجنود زمهرير الشتاء القارس، وصار على مبعدة 50 كيلومترا من الآستانة.
يضع «سينويه» تفسيرا لتباطؤ محمد على فى الموافقة على إلحاح إبراهيم بدخول عاصمة الخلافة قائلا: «كان يعيش مرعوبا من كون احتلال إستانبول سيجر عليه تدخل أوروبا لتحقيق حلمها القديم فى تقسيم الإمبراطورية العثمانية، والذى سيدفع إنجلترا، وهو متأكد من هذا إلى احتلال مصر».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة