في إحدى شقق الاستضافة المؤقتة بحي العبور في مدينة العريش على ساحل شمال سيناء، تروي يوميًا حكاية أم مثالية بحب لا يعرف الحدود.. إنها مريم عيد، أو كما يناديها الجميع "أم سيف"، التي وجدت نفسها في معركة يومية مع الحياة، ليس لأجلها، بل من أجل أربعة أطفال يتحدون الإعاقة بإصرار منقطع النظير..خلف جدران شقة مؤقتة في العريش، حكاية مليئة بالألم والأمل، حيث تصارع هذه الأم الصعاب بيد، وتغزل الأحلام لأطفالها باليد الأخرى.
"أم سيف"، حكاية إنسانية تتشابك فيها المعاناة مع الإصرار، والحب مع التضحية.. هي أم لأربعة أطفال، ثلاثة منهم فقدوا نور البصر منذ ولادتهم، بينما تعاني طفلتها الرابعة من إعاقة حركية أقعدتها عن المشي.. لكن هذه الأم السيناوية، بروحها القوية، تقف صامدة أمام كل التحديات لتمنح أطفالها حياة مليئة بالأمل.
بدأت رحلة مريم، ابنة وسط سيناء، عندما انتقلت إلى مدينة العريش، بحثًا عن خدمات تعليمية وطبية لأطفالها.
تقول مريم: "في منطقتنا في وسط سيناء، لا توجد مراكز طبية للأطفال الذين يعانون من إعاقات.. كان عليّ أن أترك جذوري وأنتقل إلى مكان أقرب للخدمات.. لم يكن الأمر سهلاً، لكنه كان ضروريًا من أجل أطفالي".
اليوم، مريم تقوم بكل أدوار الرعاية لأطفالها.. ابنها الكبير سيف الدين، الطالب في الصف الثاني الإعدادي، يعاني انفصالًا في شبكية إحدى عينيه، بينما الأخرى بالكاد يرى بها شعاعًا بسيطًا.. ورغم ذلك، يتميز بتفوقه الدراسي وطموحه الكبير.. شقيقته ولاء، الطالبة بالصف السادس الابتدائي، تعاني المشكلة ذاتها لكنها لا تزال متألقة، تفوز بجوائز ومسابقات في اللغة العربية التي تعشقها.. أما الصغيرة سجا، ذات الأربع سنوات، فتعيش نفس ظروف إعاقة شقيقيها، حيث تفقد نور بصرها، فيما جودي، التي أتمت السابعة، تعاني إعاقة بشكل مختلف، فهي قعيدة لا تستطيع المشي بسبب ضمور العظام وتوقف النمو.
يبدأ يوم أم سيف قبل شروق الشمس، حيث تعمل على تجهيز أطفالها للمدرسة الفكرية في العريش، المخصصة للمكفوفين.. تقول مريم:
"عملية تجهيزهم وحدها تأخذ وقتًا وجهدًا كبيرين نظرا لظروفهم، خاصة أن جودي تحتاج إلى حملها بسبب إعاقتها الحركية.. بعد تجهيزهم، أرافقهم إلى المدرسة وأعود لاصطحابهم بعد انتهاء اليوم الدراسي." ولا تتوقف فصول المعاناة هنا، بل تتواصل وهي تعمل على توفير احتياجاتهم والتحرك بهم للعيادات وللمناسبات دون ملل وضجر.
لم تتوقف رحلة كفاح مريم عند حدود مدينة العريش، فهي عانت رحلة السفر بعيدًا من أجل صغارها لمدة 7 سنوات، قضتها في مدينة الإسماعيلية عندما عانت العريش أوضاعًا صعبة قبل سنوات، وكان هدفها توفير حياة أكثر استقرارًا لأطفالها.. تقول: "كان من المستحيل أن أعيش في العريش خلال تلك الفترة، لم يكن من السهل أن أتحرك بأطفالي وسط الظروف الصعبة، لكننا عدنا إلى العريش بعدما استقرت الأمور."
وتضيف أنها حاولت جاهدة إيجاد علاج لطفلتها القعيدة "سجا"، التي تعاني ضمور العظام، وتوجهت إلى قوافل طبية ومراكز متخصصة في القاهرة، لكن التكاليف الباهظة جعلتها تتوقف عن استكمال العلاج.
تتابع بقولها: "ابنتي تحتاج عمليات جراحية كثيرة، لكننا ببساطة لا نملك المال، لذلك نحاول أن نعيش وفق ما لدينا، وأحاول أن أعوضهم بالحب والرعاية."
رغم الإعاقات التي يعانيها أطفالها، لا يزالون يحلمون بغدٍ أفضل.. يقول سيف الدين، وهو واثق أنه يستطيع تحقيق حلمه يومًا ما: "أنا سعيد أن والدتي تحرص على تعليمي، أحلم أن أصبح صانع محتوى يساهم في تغيير حياة الناس للأفضل."
أما ولاء، التي تفخر بإنجازاتها في مسابقات اللغة العربية وفصاحة الإلقاء، فتطمح إلى أن تصبح إعلامية معروفة، وتقول إنها لا تنتظر تحقيق الحلم، فهي من الآن تقوم بدور مذيعة تحاور زملاءها ومعلميها، وتحاول أن تخوض تجربة التدريب على مهمة في طريقها لتنفيذها، وهي الإطلالة من الشاشة على الجمهور.
تكتفي "سجا الصغيرة القعيدة" بابتسامتها المشرقة في صمت، بينما تتألق "جودي" بصوتها العذب، حيث تحب الغناء والإنشاد، متفاخرة بموهبتها الصغيرة لتضفي على المكان الذي تكون فيه حضورًا وبهجة، وهي تكرر الحروف التي تعجز عن نطقها أحيانًا.
وسط كل هذه الأجواء والتحديات في منزل هذه الأسرة المقبلة على الحياة، تحمل الأم مريم أماني بسيطة لكنها كبيرة في معناها، تلخصها بقولها:
"أحلم أن نحظى بشقة دائمة، بدلًا من الشقة المؤقتة التي نعيش فيها الآن.. لا أريد أن أعيش تحت ضغط أن أفقد المنزل في أي وقت، كما أتمنى الحصول على سيارة مخصصة لنا كذوي احتياجات خاصة، لنتمكن من التنقل بسهولة دون عناء المواصلات العامة.." لافتة أنها في هذه الظروف لا تستطيع تدبير ثمن السيارة.
لم يمر كفاح مريم دون تقدير، فقد حصلت على العديد من التكريمات، منها تكريمها كأم مثالية أثناء إقامتها في الإسماعيلية، وتكريمات أخرى من مديرية التربية والتعليم والمدرسة الفكرية وجمعيات أهلية في شمال سيناء. تقول بفخر: "أشعر بالسعادة حين أرى المجتمع يعترف بجهودي. لكن أعظم تكريم بالنسبة لي هو رؤية أطفالي سعداء ومتفوقين".
حكاية "أم سيف" وأطفالها هي فصول تضحيات من أجل الحياة لا تعرف الحدود، وإصرار يتحدى كل الصعاب مليئة بالحب والعزيمة على تحقيق النجاح، ولسان حالها يقول: "إنها تحبهم كما هم وتريد أن يتحقق لكل واحد منهم ما يتمنى. فهم هدية من السماء وبوابة دخولها الجنة".
الاء-سعيدة-بتفوقها
الاء-وسجا-متميزتين
الابن-الاكبر-سيف
الصغيرة-جودي
الولدة-مع-الابناء-المكفوفين
تكريمات-حصلت-عليها-الاء-
سيف-طموحه-للمستقبل--كبير
محرر-اليوم-السابع-مع-الاسرة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة