عندما احتل الرومان مصر، ودخل الإمبراطور أوكتاڤيانوس المعروف بـ«أغسطس قيصر» العاصمة - آنذاك - الإسكندرية مختالا بضمه درة الشرق إلى إمبراطورية الرومان، أظهر ازدراء وقحا لما وصفه بـ«عبادة المصريين للحيوانات».
الحقيقة أن وصف المصريين القدماء بأنهم كانوا يعبدون الحيوانات هو وصف ينم عن جهل شديد بفلسفة المصرى القديم فى النظر للعالم وموقع الإنسان منه.
فالمصرى لم ينظر لنفسه باعتباره مركز الكون، بل باعتباره جزءا من منظومة كونية مقدسة، لكل من مخلوقاتها دوره فيها، الأمر الذى انعكس بالتالى على نظرته لباقى الكائنات من حوله، فذهب إلى ما وراء النظرة السطحية إليها، وراح يفلسف سلوكياتها وأنماط حيواتها، ليخرج بالمغزى العميق من ذلك.
فالبقرة التى لم تكن بالنسبة إليه مجرد مصدر للغذاء صارت رمزا للأمومة والحنان، فتحولت إلى حتحور إلهة الأمومة، والعجل الذى لم يكتف المصرى بتغذيته ليصير ثورا قويا يجر المحاريث وكتل الحجارة الضخمة، صار رمزا للفحولة الذكورية، فحوله المصرى إلى أبيس سيد الخصوبة والنسل، والصقر القوى الذى يضرب الآفاق بجناحين ذهبيين، أصبح يمثل حورس المتجسد فى الفرعون سيد الأرضين ورع الشمس الساطعة، واللبؤة الرهيبة التى تقتنص الفرائس وتمزق أعداءها شر ممزق صيغت فى سخمت إلهة الحرب، حتى حشرة الجعران الصبور على جمع الروث والطين لوضع بيضها وبناء بيتها، قدسها وقرن خروجها من الطين بانبعاث الموتى من قبورهم، وشبه دفعها كرة الطين أمامها بحركة الشمس من المشرق إلى المغرب.
هكذا ولد احترام المصرى للحيوانات والكائنات المختلفة، باعتبار أن سلوك كل منها يعكس رمزية عميقة مهمة لتحقيق توازن الكون واستمرار الحياة، وهو الأمر الذى سينعكس على تعامله معها مستقبلا.
ولنقفز عبر الزمن إلى مرحلة حضارية لاحقة من تاريخ مصر، هى المرحلة العربية الإسلامية.
«أمم أمثالكم» و«فى كل كبد رطبة أجر» من هذا المنطلق تعامل المصريون فى العصر العربى والإسلامى مع الحيوان.
لو أنك كنت تعيش فى قاهرة العصر المملوكى، وقررت أن تتجول فى أسواقها وقصدت السوق المعروفة بـ«سوق الدجاجين»، حيث تباع مختلف أنواع الطيور، وصادف ذلك يوم الجمعة، لرأيت مشهدا فريدا، آباء يصطحبون أطفالهم لشراء العصافير والحمائم، ثم يتوجهون إلى أسطح الدور والمساجد ويفتحون أقفاص طيورهم ليطلقوها إلى فضاء الحرية، فقد اعتقدوا أنك إذا أطلقت عصفورا أو حمامة ومنحتها حريتها فإنها تدعو لك بين تسبيحها باسم الخالق. ينسب البعض المثل الشعبى الشهير «اللى معاه قرش محيره يجيب حمام ويطيره» لتلك العادة، لكنى لست متأكدا من علاقة المثل بها.
وإن عرجت على بعض طرقات المدينة العريقة، وصادفت المحتسب-وهو الموظف القائم بالرقابة على تنفيذ القوانين- وسألته عن شرط المرور بحمولة على ظهور بعض الدواب كالجمال والحمير، لأخبرك عن القانون القاضى بأن ثمة حدا أقصى لما يوضع على ظهر الدابة كيلا يؤذيها ثقل الحمل، وأن عليك إن توقفت لأمر طارئ أن تنزل الحمل عن ظهرها تجنبا لإرهاقها بحمله طويلا.
دعنا نرجع إلى زماننا ونذهب فى زيارة لمتحف الفن الإسلامى بالقاهرة، أترى هذا الوعاء الرخامى الضخم بديع التصميم، الذى يشبه ما نصفه حاليا بـ«الزير»؟ ستجد فى أسفله جزءا مخصصا لتلقى قطرات الماء المتكاثفة على السطح الخارجى للوعاء فى مكانه بساحة الجار، فتتجمع فيه ليكون سقيا للعصافير الهابطة بحثا عن الحَب والشراب.
وخارج الدور فى القاهرة القديمة، كانت ثمة حُفَر فى الأرصفة خصصت لسقى كلاب الشوارع التى تخاف أن ترد أحواض سقيا الدواب، فتفتقت أذهان المصريين عن حيلة الحُفر تلك لتنال ثواب سقاء الكلاب بعد أن عرفوا قصة أن الله قد أدخل رجل الجنة بشربة ماء سقاها كلبا كاد أن يهلكه العطش.
ولو طالعت قوائم مشآت سلاطين وأمراء العصر المملوكى، لوجدت بينها عددا لا بأس به من الأسبلة المخصصة لسقيا الدواب، بل وعيادات بيطرية فى الطرق لعلاج ما قد يصيب تلك الدواب من إصابات طارئة أو أمراض عارضة.
ولو دلفت إلى أى من المساجد الكثيرة وسألت بعض فقهائها عن حكم الشرع فى القطة الضريرة إذا دخلت دارك، لأخبرك بأن الشرع يلزمك إيواءها وإطعامها ورعايتها، لأنها قد استجارت بك وهى لا تقدر على نيل طعامها ولا حماية نفسها من الأخطار، حتى إن كتب التاريخ تذكر قيام بعض أهل الخير بتخصيص أوقاف للإنفاق على ملاجئ للقطط المسنة والعمياء.
ولندع عصر المماليك وشأنه.. لو فتحت موقع فيسبوك وكتبت فى خانة البحث «انقذ روح حيوان برىء save an innocent animal soul» لوجدت صفحتين بهذا الاسم، بواحدة منها نحو 150000 عضو، وبالأخرى ما يزيد على الربع مليون عضو، والصفحتان تزدحمان بالمنشورات المتنوعة، من إبلاغ عن حيوان ضال مريض أو مصاب أو عالق فى حفرة أو مبنى مهجور، أو دعوة لتبنى حيوان منزلى لم يحسن أصحابه عشرته فطردوه للشارع ليواجه مصيرا قاسيا فهو - بحكم نشأته فى بيئة منزلية - غير مؤهل للتعايش معه، فيضع صاحب المنشور صورة الحيوان وعنوان وجوده، ويتطوع بعرض المساعدة لتوصيله للراغبين فى التبنى، أو منشورات تبلغ عن محلات لبيع الحيوانات تسىء معاملة حيواناتها، فيدعو صاحب المنشور من يقدرون على تخليص الحيوان من معاناته بالتوجه لشرائه وتبنيه، ومنشورات أخرى تفضح من اعتلت نفسياتهم وضمائرهم فراحوا يسممون الحيوانات ويسيئون معاملتها لإرضاء ساديتهم البغيضة، بل وثمة متطوعون بشهامة للإمساك بحيوان عالق أو لتسلق مبنى مهجور لاستخراجه منه وهم من يوصفون بالـcatchers يضعون أرقامهم للتواصل معهم، ليهرعوا على جناح السرعة إلى موقع الحيوان المسكين وإنقاذه، وكل هؤلاء لا يبتغون أجرا ولا شكرا ولا يلتفتوا للسخفاء الذين يسفهون من عملهم، ويرددون تلك العبارة السمجة: «اطعموا البشر أولا».
هؤلاء الذين يبذلون وقتا وجهدا ومالا للرفق بالحيوان قد لا يكونوا قد قرأوا عن فلسفة المصريين القدماء فى النظر للحيوان، ولا فى تاريخ الرفق بالحيوان فى قاهرة العصر العربى الإسلامى، لكنهم تلقوا فى وجدانهم الجمعى تلك البذرة الطيبة التى غرسها المصرى القديم، ورعاها المصرى العربى، فنمت فيهم القناعة بأننا معشر البشر لسنا وحدنا فى هذا العالم، وأننا جزء من منظومة كونية لكل عنصر فيها دوره.. ولكل مخلوق فيها احترامه وحقه.. ولعمرى أن هذا هو الفهم الصحيح لفكرة «الاستخلاف فى الأرض».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة