كانت الساعة الثامنة مساء 13 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1967، حين وصلت سيدة الغناء العربى أم كلثوم إلى مسرح «الأولمبيا» فى باريس، لإحياء حفلتها الأولى بالعاصمة الفرنسية لصالح المجهود الحربى، كان يرافقها ابن شقيقتها المهندس محمد الدسوقى، والدكتور على السمان، ويصف الاثنان شعورها بأنها كانت فى غاية التوتر والقلق، كانت تتساءل كيف ستواجه جمهورا جديدا للمرة الأولى، وكيف ستتلقى الجماهير الغربية ذلك الغناء الغارق فى الشرقية والطرب، حسبما يذكر الكاتب والباحث «كريم جمال» فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
يضيف «جمال»: «ما إن وصلت حتى صدمها ذلك المشهد الخارجى، فاندهشت من الزحام الشديد فى المنطقة وأمام مدخل «الأولمبيا» الرئيسى، ثم ولجت داخل المسرح من بوابته الخلفية حتى لا يراها أحد من الصحفيين أو الجماهير، ورغم أن إدارة المسرح خصصت لها حجرة لتغيير الملابس فرشتها بالورود والزهور، فإنها رفضت دخولها وجلست فى حجرة الاستراحة المخصصة لها تنتظر ساعة الصفر والمواجهة الأولى».
كان الحشد خليطا من جماهير عربية من أرجاء فرنسا ودول أوروبية وعربية، وفى صالة المسرح جلس فى الصفوف الأولى ثلاثة عشر سفيرا عربيا، من بينهم سفير مصر عبدالمنعم النجار، ومدير مكتب الجامعة العربية فى باريس، وأميرات وأمراء سعوديون، وملك الأردن حسين بن طلال، الذى جاء خصيصا إلى باريس وبصحبته شقيقه الأمير حسن، ودخلا إلى المسرح متنكرين، لكن عيون الصحافة رصدتهما ونشر خبر حضورهما فى اليوم التالى، وفقا لكريم جمال، مضيفا: «من تونس جاءت السيدة نائلة بن عمار شقيقة السيدة وسيلة بن عمار زوجة الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة، ومن لبنان طارت السيدة نهلة القدسى زوجة الموسيقار محمد عبدالوهاب، وكانت قاعة الأولمبيا فى تلك الليلة تبدو مثل جزيرة عربية صغيرة، يجلس فيها السفير بجوار العامل العربى البسيط فى موانئ فرنسا».
فى الساعة التاسعة وخمس وعشرين دقيقة، تحركت الستارة يمينا ويسارا لتفتح تدريجيا، وتظهر أم كلثوم على خشبة الأولمبيا، ويذكر جمال: «انتفضت الصالة واقفة لتحييها هى وفرقتها الموسيقية، وتضج القاعة بالهتاف والتصفيق المتواصل وغير المنقطع، ووقف الجالسون يصيحون من أعماق قلوبهم: «تعيش أم كلثوم، تعيش ثومة، والواقفون فى جنبات المسرح ظلوا يضربون الأرض بأرجلهم تعبيرا عن فرحتهم بتلك اللحظة التاريخية، وما بين ست إلى ثمانى دقائق كاملة من الهتاف والتصفيق الذى لا ينتهى، حاولت أم كلثوم أن تعود أكثر من مرة إلى مقعدها المذهب من طراز «لويس السادس عشر» وسط فرقتها، لكن الجماهير كانت تعيدها فى كل مرة إلى مقدمة المسرح، لتقف وترفع كفها على رأسها، وكأنها تحيى كل من فى القاعة، ثم تهز رأسها بإيماءة صغيرة، وتعلو وجهها ابتسامة رضا تنم عن بوادر اطمئنان بدأ يعانق قلبها».
بدأت الفرقة الموسيقية فى عزف مقدمة أغنية «انت عمرى» لتخترق الصيحات فى القاعة، وأجبرت الموسيقى الجماهير على الهدوء والجلوس، ويذكر «جمال» أن «كوكاتريكس» صاحب «الأولمبيا» كان خلف الكواليس يتابع ذلك الاستقبال الجنونى، الذى قال عنه فيما بعد إنه لم يشاهد نظيرا له طوال حياته فى ذلك المسرح، وينقل «جمال» عن جون ميشيل بوريس نائب مدير الأولمبيا قوله: «كنت واقفا خلف الستار أراقب هذا المشهد الخلاب الذى لم يسبق لى أن شاهدت مثيلا له من قبل فى أى حفل موسيقى غربى، مشهدا يبعث حقا على الدهشة والروعة والفرحة، كل هذه المشاعر المرسلة إليها، وهى بكل كبرياء ووقار تستقبل هذا الحب من معجبيها وهى فى العقد السابع من عمرها».
غنت أم كلثوم ثلاث أغنيات، «انت عمرى» و«الأطلال» و«بعيد عنك حياتى عذاب»، ووقعت الجماهير العربية والفرنسية تحت سحرها، ويذكر «جمال» أنه من أعجب ما حدث فى تلك الليلة هو الحضور الكبير لليهود الشرقيين فى فرنسا، فبرغم ما قامت به الوكالات الصهيونية فى فرنسا من محاولات التحريض على عدم حضور الحفل، إذ كانوا يجوبون الأحياء والمعابد الشرقية فى باريس وخصوصا فى حى «بيلفيل» وحى «مونت مارتر» لإقناعهم بأن أم كلثوم تعمل ضد وجود إسرائيل، وأن أموال حفلاتها تذهب إلى المجهود الحربى فى مصر، برغم ذلك فإن اليهود الشرقيين ضربوا بكل تلك المحاولات عرض الحائط، وحجز العديد منهم تذاكر الحفلة الأولى بل والثانية أيضا، وتفاعلوا مع غناء السيدة بشدة.
تابع «كوكاتريكس» هذا الأمر بقلق فى البداية، وينقل كريم جمال قوله: «كان هناك يهود من شمال أفريقيا بين الحاضرين، وأقلقنى الوضع لعلمى أنها غنت أغنيات تحريضية ضد إسرائيل فى أثناء حرب الستة أيام «5 يونيو 1967»، وكنت أعتقد أنهم لا يحبونها، ولكن كان هناك نحو 400 أو 500 يهودى، من الشباب من أصول جزائرية ومغربية وتونسية، كانوا يحيونها بحرارة، يصفقون ويضربون الأرض بأرجلهم، وسألت أحدهم كيف تعظمها هكذا وهى كانت ضد «شعبك»، فقال: «لا يهم فهى الأفضل».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة