تحشرج صوت سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وانحبس تماما ولم تقدر علي الإعادة الثالثة لمقطع "يارب توعدهم يارب/ يارب واقبلنا"، لأغنية "القلب يعشق كل جميل" وكانت تؤديها في وصلتها الثانية والأخيرة بحفلتها يوم 4 يناير، مثل هذا اليوم، 1973، وهي آخر مرة تقف فيها علي المسرح التي اعتادت أن تطل منه عشرات السنين لتسعد ملايين العرب بصوتها، حسبما يذكر الكاتب الباحث كريم جمال في كتابه "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي".
أعادت أم كلثوم في وصلتها الأولي بهذا الحفل أغنية "ليلة حب" كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، وألحان محمد عبدالوهاب، وأطلقتها في حفلها الشهري ليلة 7 ديسمبر 1972.
ويكشف "جمال" معاناتها البالغة في حفل 4 يناير 1973، وكانت في الخامسة والسبعين من عمرها، وقدمت فيه "ليلة حب" في أكثر من ساعتين، بدا فيهما جليا حالة الإعياء الشديدة عليها، رغم محاولتها جاهدة أن تؤدي الوصلة الأولي كما اعتادت الجماهير أن تسمعها، فارتجلت في المقطع الأخير من الأغنية، وقدمت أفضل وأكمل نسخة منها، وبعد نهاية الوصلة الأولي، وفي غرفتها وراء الكواليس جلست ترتاح بعد تعبها الشديد.
يؤكد "جمال" أن مقربين منها نصحوها في الاستراحة أن تعتذر عن عدم أداء الوصلة الثانية، لكنها رفضت، وينقل عن الشاعر السوري أحمد الجندي أنه دخل في تلك الليلة غرفتها بالمسرح بين الوصلتين، فوجد طبيبها يحقنها لتقوي علي الوقوف للوصلة الثانية، وطبيب آخر يعمل علي تدليك قدميها، إذ كان معروفا أنها تقع أسيرة التشنج بعد الغناء، وصعدت بعد الاستراحة لتطل علي الجماهير طلتها الأخيرة، وقدمت "القلب يعشق كل جميل" بمناسبة دخول العشرة الأوائل من ذي الحجة عام 1392 هجرية.
يري "جمال" أن الوصلة الأخيرة لهذه الليلة الغنائية ربما تكون الأكثر قسوة وحزنا في مسيرة أم كلثوم المسرحية، لأن الوهن الرهيب الذي أصابها في تلك الوصلة لم تألفه الآذان العربية منها من قبل، فبدت المقاطع ذات الطبقات العليا في الأغنية عصية عليها، ليخونها صوتها في أكثر من موضع خصوصا وهي تؤدي مقاطع مثل "سلم لنا تسلم"، والمقطع الشهير في نهاية كل كوبليه" أما تجلالي/ بالدمع ناجيته"، فكانت تمتنع عن أداء تلك المقاطع ذات الطبيعة الجوابية، أوتضطر لغنائها بصوت هزيل منهك.
يضيف "جمال" أن أم كلثوم أقدمت علي لفتة في نهاية الوصلة ربما أوحت لها بقرب نهاية الرحلة، إذا لجأت إلي ارتجال شعري يليق بتاريخها الوطني ومجهودها الحربي المشرف، فبدلت فجأة نهاية المقطع الأخير للأغنية، وتحديدا عبارة "يارب توعدهم يارب/ يارب واقبلنا" إلي "يارب توعدهم يارب/ يارب وانصرنا"، ليفاجأ الجمهور بذلك الدعاء المرتجل الذي خطر علي بالها وهي تقاوم مرضها وآلامها في إطلالتها الأخيرة، وتنتفض قاعة المسرح داعية وهاتفة لها بالصحة وطول العمر، ومطالبة بإعادة ذلك المقطع الذي لامس حالة التعبئة العامة والشاملة لمصر قبيل حرب أكتوبر 1973.
أعادت أم كلثوم المقطع، لكن صوتها تحشرج وانحبس تماما في نهاية الوصلة، ولم تقدر علي الإعادة الثالثة، ويذكر "جمال" أنها طلبت بإشارة خفية بيديها من عامل الستار إغلاقه عليها بعدما أدت قفلة الأغنية بصعوبة شديدة، وما إن أغلقت الستارة وتوارت خلفها حتي وضعت وجهها في منديلها الأبيض، وانهالت دموعها حزنا علي ما آلت إليه من ضعف جسدي وغنائي، إذا كان معروفا عنها أنها أقدر وأشجع الأصوات علي أداء القفلة الغنائية، وتجتاز دائما ذلك الامتحان الغنائي الصعب بتمرس وثقة طربية لاينافسها فيها مطرب آخر، لذا بدت تلك اللحظة في حياتها وكأنها بداية النهاية.
يشير "جمال" إلي أن انفلات صوتها هذه المرة، تكرر في الموسمين الأخيرين من حياتها الغنائية، وتحدث عنه الموسيقار محمد الموجي في حديث تليفزيوني، فأكد أنها لم تؤد قفلة "أغنية "اسأل روحك" حين شدت بها للمرة الأولي في بداية عام 1970 كما كان متفقا عليه في البروفات، وأن الموسيقار محمد عبدالوهاب طلب منه أن يخفض الدرجة الموسيقية للأغنية، حتي وإن جاء علي حساب أداء الآلات الموسيقية، وكانت أم كلثوم تتغلب في كل مرة علي ذلك الانفلات الصوتي، وتستطيع بخبرتها التاريخية أن تؤدي اللحن بأقل الخسائر، وتعبر فوق مظاهر الشيخوخة الغنائية التي بدت تتملك منها تماما منذ عام 1970.
يذكر "جمال"، أن أم كلثوم ربما أدركت للمرة الأولي في حياتها أنها غير قادرة إطلاقا علي امتلاك ناصية صوتها، ليشاء القدر أن تكون تلك الوقفة الأخيرة والمؤثرة هي ختام حياتها المسرحية، وأن تكون "القلب يعشق كل جميل" تلك المناجاة الصوفية تغريدة الكروان الأخيرة، وأن تودع الجماهير العربية بالدعاء لهم بالنصر والتمكين، في صورة درامية غريبة تلخص توجهها الوطني كاملا منذ هزيمة الخامس من يونيو 1967.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة