كان المشهد مهيبا بالآلاف الذين يحملون الأعلام الفلسطينية وهم يشيعون الشاعر الفلسطينى سميح القاسم إلى مثواه الأخير فى بلدة الرامة بالجليل الأعلى، 21 أغسطس، مثل هذا اليوم، 2014، بعد يومين من رحيله عن عمر يناهز 72 عاما.
ردد المشيعون أشعاره، وسجى جثمانه فى بيت الشعب، وارتدت النسوة الملابس السوداء وغطاء الرأس الأبيض وحملن أغصان الزيتون، وهن يندبن الشاعر بقولهن: «كتبوا أوراق النعى وفرقوها على البلاد»، وارتدى الشبان سترات كتب عليها «منتصب القامة أمشى.. مرفوع الهامة أمشى، ولم تتمالك زوجته «نوال» نفسها عندما حملوا النعش وكادت أن تقع أرضا، وردد الجميع وهم يبكون «مع السلامة مع السلامة» وخلف الكشافة الذين عزفوا دقات الحزن، سار الموكب المهيب وراء علم فلسطينى امتد لعشرة أمتار، على وقع كلمات قصيدة «سماء الأبجدية»، وفقا لموقع جريدة الوطن، مصر، 21 أغسطس 2014.
تقدم المسيرة مشايخ الدروز ورجال الدين المسيحى والإسلامى وأصدقاء الشاعر وأبناؤه وزوجته وأقرباؤه وشخصيات سياسية وأعضاء الكنيست العرب، ووضع الجثمان فى الملعب، حيث بدأ وصول الوفود من القدس والضفة الغربية والنقب وغيرها من المدن، وكان بين المعزين رئيس الوزراء الفلسطينى السابق، الدكتور سلام فياض، فيما تقدم أعضاء وفد الجولان، الموكب، حاملين أعلاما سورية وفلسطينية مرددين: «الجولان وسوريا نسيوها العرب.. تبقى سوريا تقول أرضك راجعة».
رددت النساء: «على دمشق الشام روحك راجعة حيوا وطنا سوريا بالقصيدة اللامعة»، وخلال العزاء صدحت قصيدة لسميح بصوته يصف فيها عزاءه ويشكر فيها «من قدم لتشييع جثمانى.. ولكل الذين أتاحوا لى رفعى على أكتافهم وأولئك الذين حملوا أكاليل الورود.. ماذا أقول، وجاءوا لتكريم شخصى الضعيف لهذه الجنازة ألا عظم الله أجركم أجمعين»، وانطلقت كلمات القاسم بصوته: «قالوا ويوم تغادر روحى فضائى.. لشىء يسمونه الموت، أرجو ألا تفارق وجهى الابتسامة».
كان ينتظر لحظة موته بعد أن أصيب بسرطان الكبد ثلاث سنوات، قال خلالها: «وليأت الموت وأنا مسترح مرتد ملابس جميلة ومرتبة، أنا أحب الأناقة حتى فى الموت، أحبه أن يكون أنيقا ومرتبا وجميلا ونظيفا»، وبوصف الشاعر التونسى عبدالوهاب الملوح: «رحل أنيقا من دون أن يتلوث بأى شىء ورحل كبيرا وهو يدافع عن شعبه»، «جريدة الأنباء الإلكترونية - 19 أغسطس 2014».
وحسب رأى الشاعر اللبنانى محمد على شمس الدين: «سميح شاعر قريب من النفس، جميل نقى شفاف أليف ساخر، يعد من أبرز شعراء الغضب العربى كأمل دنقل، نزار قبانى، مظفر النواب، أحمد مطر، فهو شاعر مختلط عجيب وشعره يتكون من وقائع ويوميات وتفاصيل أليفة وإخبارية، لكنها على العموم دامية تنزف بلا انقطاع وساخرة وتضع الشىء وضده وجها لوجه»، «جريدة رأى اليوم-21 أغسطس 2014».
مات فى نفس شهر موت رفيق أيامه الشاعر محمود درويش «8 أغسطس 2008»، وكان يبكيه كثيرا وخاطبه: «تخليت عن وزر حزنى، ووزر حياتى وحملتنى وزر موتك، أنت تركت الحصان وحيدا، لماذا؟»، وقال: «نفرح ونحزن، نهدأ ونغضب، وصديقان منذ الصبا، تقاسمنا رغيف الخبز معا، لعبنا معا، كتبنا الشعر فى السر والعلن معا، خفت عليه وخاف على».
هو سميح محمد قاسم حسين أبومحمد آل حسين القاسم، ولد فى 11 مايو أيار عام 1939 فى الزرقاء الأردنية، ودرس وعاش فى الرامة شمال فلسطين ثم فى الناصرة، وتذكر جريدة «العرب اللندنية، 24 أغسطس 2014»، ورفض الانخراط فى التجنيد العسكرى الإجبارى الذى فرضته إسرائيل على دروز فلسطين، فكان أول شاب درزى يفعلها، ومثل نموذجا تبعه كثيرون من أبناء طائفته، وخاض نضاله السياسى ضد الاحتلال، وتم اعتقاله أكثر من مرة، وطرد من وظيفته وتعرض للتهديد بالتصفية، ولا يرى القاسم فارقا فى أن يولد فى فلسطين أو فى غيرها، قائلا: «أنا ابن هذه الأمة العربية من مضيق جبل طارق إلى مضيق عمان، تتوزع جذورى بين جزيرة العرب، حيث قدم جدى ليقاتل مع صلاح الدين الأيوبى ليستقر على سفح جبل حيدر، إلى سوريا ولبنان والأردن، حيث يتوزع أقاربى».
والده كان ضابطا أردنيا فى قوات حرس الحدود، وحين ولد عاد به بالقطار إلى فلسطين، وأخذ يبكى فخاف الركاب أن يسمع الطيارون الألمان بكاءه فيقصفوا القطار، فأراد بعض الرعاع أن يخنقوه، فدافع عنه والده بمسدسه، وفى سن التاسعة اندلعت حرب العام 1948، وأعلنت إسرائيل وجودها وأصيب العرب بالنكبة، فقصفت بلدته الرامة بالطائرات، فهرب مع أهله إلى الجبال، وبقوا أياما متوارين فى العراء، لتبدأ رحلته مع صراع الهوية ليعمل معلما فى المدارس وصحفيا فى جريدة الاتحاد وعاملا فى المنطقة الصناعية فى حيفا، ثم مفتشا فى دائرة التنظيم المدنى فى الناصرة، ثم استقال احتجاجا على مصادرة الأراضى العربية، تقلب كثيرا عبر سنوات عمره، وكان يرى كل مرة المشهد ذاته، لحظة النكبة، فكرس ذلك فى شعره «جريدة العرب- 24 أغسطس 2014».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة