هل اقتحم عبد الحليم حافظ عالم التجارة والأعمال او بلغة العصر عالم البيزنس..؟
48 عاما هي عمر العندليب الأسمر فقط، عاش خلالها رحلة كفاح في مشوار فني لم يخل من عقبات كثيرة، وسنوات صعود وهبوط، ومعارك فنية لم تتوقف حتى بعد وفاته. كل من كانوا حوله وصفوه بالذكاء الاجتماعي والحضور الإنساني الذي لم ينافسه فيه أحد. وأجمعوا أن هذا الشاب النحيل المولود يوم 21 يونيو عام 1929 كان يعرف طريقه نحو المجد الغنائي جيدا، فخاض بعنف وشراسة معاركه للدفاع عن عرشه مدركا أنه "ابن موت" ولن يعيش طويلا.. فعليه أن يختزل سنوات عمله لتحقيق حلمه الذي سعى إليه منذ قدومه للقاهرة في أول الخمسينات تحديدا عام 1950.
وفي أقل من ثلاثة سنوات يلفت الأنظار إليه بشدة ليصبح "النجم" و"صوت الثورة" و"صوت الحب" أيضا.
عام 1961 وهو في قمة مجده الغنائي، فكر حليم في اقتحام عالم المال والأعمال، ليس من أجل كسب المال أو استثمار أمواله في العقارات وتجارة السيارات أو افتتاح المقاهي والمطاعم والفنادق، وإنما في المجال الذي يعرفه ويفهمه جيدا وهو " بيزنس الفن".
لكن كان من الصعب والغريب جدا في هذا الوقت أن يتخيل عشاق ومعجبو ومتابعو العندليب الأسمر أن يتحول معشوقهم رمز الرومانسية الغنائية إلى "منتج" وشريك في شركة تجارية حتى لو كانت شركة إنتاج فني... لم يتقبل الجمهور أو يستسيغ فكرة المنتج عبد الحليم حافظ، بدلا من المطرب الرومانسي المرهف الحس في الأغاني والأفلام، ومن الصعب أيضا أن يصبح منتجا ممسكا بقلمه ليوقع على عقود وشيكات ويدقق في الحسابات والمرتبات والأجور ويدخل في حوارات تجارية ويماطل ويفاصل مع المتعاملين مع الشركة حتى لو كانوا زملاءه وأصدقاءه الفنانين.
"حليم" مع مشروعه الغنائي كان يحلم بأن يكون صاحب شركة إنتاج فني، وسعى من أجل ذلك لهدف وحيد وهو أن يحمي فنه ويخلده، وألا يسمح لغيره أن يملي عليه شروطه، حيث اختار الحرية الكاملة في ما يشدو به، وربما هذا أحد أبرز الأسباب التي جعلته المطرب الذي تتسع قاعدته الجماهيرية حتى الآن رغم رحيله عن دنيانا منذ 46 عاما .
المعلومات حول المنتج عبد الحليم حافظ تكشف حقائق مذهلة، وهي أن حليم بدأ في تأسيس شركة لإنتاج الأفلام مع صديقه مدير التصوير وحيد فريد عام 1955 وكان عمره 25 عاما، واستطاع أن ينتج أول فيلم مصري كامل بالألوان، وهو فيلم "دليلة" الذي قام ببطولته مع شادية وعرض عام 1956، وحمل "أفيشه" اسم الشركة "أفلام عبد الحليم حافظ"، حيث ارتبط اسمه كمنتج وكممثل بأول فيلم مصري يعرض بالألوان الطبيعية.
تتطور الفكرة مع التوسع في الإنتاج في سوق الفن المصري لينهي أعمال شركته الأولى مع مدير التصوير الأشهر وقتها، الحاج "وحيد فريد"، ويلجأ عبد الحليم حافظ إلى تكوين شراكة ثلاثية ناجحة مع أستاذه ومثله الأعلى الموسيقار محمد عبد الوهاب ووحيد فريد، لتأسيس الشركة الأكثر شهرة حتى الآن ولو بذكرياتها وبصداها وهي شركة "صوت الفن".
وانضم إليهم فيما بعد مجدي العمروسي الصديق المقرب من عبد الحليم، وكان شريكاً في صوت الفن الخاصة بإنتاج الأفلام فقط وليس الأغنيات، وكان هناك شركاء آخرون مثل شقيق محمد عبد الوهاب و شقيق عبد الحليم حافظ.
أنتجت "صوت الفن" أشهر أغاني وأفلام عبد الحليم حافظ، وأيضا أشهر أعمال محمد عبد الوهاب، وأسهمت الشركة في مسيرة النهضة الغنائية المصرية بأعمال مميزة في تاريخ الأغنية العربية، حيث قدمت أعمالا لكبار المطربين مثل شادية وصباح وفايزة أحمد وليلى مراد ومحمد رشدي وغيرهم.
وفي مجال الإنتاج السينمائي، أسهمت الشركة في إنتاج أعمال مهمة وبارزة في تاريخ السينما، حيث أنتجت الشركة 14 فيلماً بينها "الخطايا"، و"الراهبة" و"بائعة الجرائد" و"حكايتي مع الزمان" و"بالوالدين إحساناً" و"مولد يا دنيا" و"أبي فوق الشجرة"، علاوة على الإشراف على توزيع عشرات الأفلام، ثم توقف عمل الشركة مع بداية التسعينيات، بعد وفاة أغلب الشركاء ثم بدأ الورثة في بيع حصصهم.
عبد الحليم حافظ كان لديه اهتمام خاص بتأسيس شركات إنتاجية تتعاقد مع كبار الفنانين، ويحصل على الأجر الأعلى منها أيضاً باعتباره أحد المتعاقدين معها كممثل ومطرب كذلك، ولكنه أيضاً عرف كيف يحمي استقلاليته كفنان، فقد كان تعاقده مع شركته صوت الفن الخاصة بالأسطوانات يقضي بأحقية الشركة في توزيع أغنياته فقط، ولكنها لا تملكها، فالشروط كانت تنص على أن أغنيات عبد الحليم حافظ ملكه هو فقط، فيما توزيع الأسطوانات تتولى الشركة مسؤوليته.
قدمت شركة "صوت الفن" أعمالا فنية ذات تأثير كبير على الساحة الفنية، وتعاقدت مع كبار نجوم الغناء أمثال فايزة أحمد ونجاة وشادية وليلى مراد ومحمد رشدى وشريفة فاضل وياسمين الخيام. كما أن مكتبتها تحتوى على مجموعة من أهم كتالوجات الموسيقى والغناء في الوطن العربي والتي ضمت أكثر من 300 البوم غنائي وموسيقى. وفي عام استحوذت شركة "مزيكا" استحوذت على مكتبة شركة "صوت الفن".
وفى 2001 ظهرت النزاعات القضائية بناء على دعوى أقامها محمد شبانة ابن شقيق الفنان الراحل عبدالحليم حافظ، بعد صراع بين شبانة ومجدي العمروسي، خاصة بعد أن قام العمروسي وورثة محمد عبدالوهاب وعلية شبانة شقيقة عبدالحليم حافظ ببيع حصتهم في شركة صوت الفن.
في كتابه "أعز الناس " يحكي مجدي العمروسي شريك حليم في صوت الفن كيف تعرف على عبد الحليم فيقول إن علاقته بدأت بـ«حليم» في مطلع الخمسينيات، عندما التقى به فى منزل صديقه وزميل دفعته فى كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية الإذاعى القدير «فهمى عمر» حيث دعاه الأخير لحضور حفل عيد ميلاده فى القاهرة، وكان من ضمن الحضور العديد من الشخصيات الإعلامية والفنية المعروفة وقتها، كان «حليم» لم ينل حظه من الشهرة بعد، ولما كان المكان مزدحمًا بالمدعوين،
أخد «العمروسى» يتجول فى شقة صديقه، وسمع صوت «عبدالحليم» يغنى فى إحدى الغرف، فجذبه الصوت، ودخل الغرفة، وعرفه بنفسه، وأثنى على صوته متوقعًا له مستقبلًا باهرًا، وأعرب له «حليم» عن حلمه بالغناء على أحد مسارح الإسكندرية وبعد عام من هذا اللقاء، اتصل «حليم» بمكتب المحاماة الذى كان يعمل به «مجدى» بالإسكندرية، وأخبره أنه تعاقد على إقامة حفلات لمدة شهر بالمسرح القومى بالشاطبى، ودعاه لحضور أولى تلك الحفلات، التي قذفه الجمهور فيها بالبيض والطماطم، رافضين ما يقدمه من غناء، ومطالبين إياه بغناء أغاني «عبدالوهاب» وظل «العمروسى» يواسى «حليم» كل ليلة، بل ودعاه لأن يعيش معه فى شقة شقيقته بزيزينيا طوال فترة إقامته هناك، وأمام هذا الفشل، فسخ المتعهد عقده مع «حليم» ورغم صعوبة ذلك اليوم إلا أنه كان سببًا في تعارف «مجدى» بـ «عبدالوهاب».
حكاية شركة الإنتاج كانت مثار تعجب الكثيرين لدرجة أن وزير الثقافة والإعلام الدكتور «عبدالقادر حاتم» كان يصف مجدى العمروسي بالرجل الذى استطاع أن يضع الكبريت بجانب الثلج، وقد كانت تلك الخطوة بدايتها من عند «حليم» أيضًا، ففي سنة 1958 بدأت نجوميته، فطلب من العمروسى أن يصفى كل أعماله في الإسكندرية وينتقل للعيش فى القاهرة حتى يتفرغ لإدارة أعماله، وأنشأ له شركة إنتاج سينمائية بالشراكة مع «وحيد فريد» أشهر مدير تصوير وقتها، باسم (أفلام العالم العربي) وفى مجال الغناء كان «حليم» متعاقدًا مع شركة (كايروفون) التي كان «عبدالوهاب» أحد ملاكها، وفى سنة 1960، حدث خلاف بين «حليم» وبين ملاك الشركة، وانحاز «عبدالوهاب» لـ«حليم» وفض شراكته معهم، وتم إضافة فرع للأسطوانات لشركة الأفلام، وأصبح «عبدالوهاب» شريكًا بها، وانضم «مجدى» إلى الشركاء الثلاثة، واقترح كامل الشناوي أن يتغير اسم الشركة لتصبح (صوت الفن).
بعد وفاة حليم اتهم ورثته مجدي العمروسي بالاستيلاء على حقوقهم فى شركة (صوت الفن) وأقاموا عشرات الدعاوى القضائية لكنهم خسروها، فالعمروسي قبل أن يبيع حصته لـمحسن جابر كان يرفض أن يتدخل الورثة فى إدارة الشركة، لكنه كان يعطيهم حقوقهم المالية كاملة.
قرر «العمروسى» أن يبيع حصته فى الشركة ولم يتركها للورثة لأنه لم يرغب أن يكن لأبنائه من بعده أى علاقة بالفن، فابنته مايا درست الهندسة فى الجامعة الأمريكية، أما ابنه عبدالحليم فقد كان يشغل منذ سنوات منصب أستاذ مرموق بجامعة تورنتو بكندا
في عام 2002 توفي عبد المجيد العمروسي المحامي السكندري المعروف بمجدي العمروسي وانطوت بذلك آخر صفحة في شركة «صوت الفن» التي انشأها العمروسي مشاركة مع الموسيقار عبد الوهاب والمصور وحيد فريد ثم عبد الحليم حافظ. وكان مجدي العمروسي يقول انه عندما رتب خروج الشركاء من الشركة بالوفاة فقد رشح عبد الوهاب اولاً، وعبد الحليم حافظ آخراً، ولكن المقادير كان لها رأي آخر، فقد مات الاخير قبل الاول، ثم وحيد فريد
في نوفمبر من العام الماضي تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مجموعة كبيرة من أعمال شركة "صوت الفن" التي كان يمتلكها عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب فيها توقيعاتهم وعقود الأفلام والأغاني وحتى النوت الموسيقية بخط عبد الوهاب" وهو ما طرح سؤال: من أين جاءت هذه الأوراق ولماذا لا تحتفظ بها جهة رسمية معنية بالدولة للحفاظ على تراثنا الفني..؟
من بين هذه الأوراق.. دعوة خاصة لفيلم الخطايا وجهتها الشركة لعدد من الشخصيات العامة لحضور العرض الخاص لفيلم الخطايا، والمعروف أن فيلم الخطايا أول الأفلام التي أنتجتها الشركة، وذلك في سنة 1962 من بطولة الفنان عبد الحليم حافظ والفنانة نادية لطفى.
وجاء في نص الدعوة: يتشرف محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ووحيد فريد نيابة عن أفلام صوت الفن وكل من ساهم بالعمل في فيلم "الخطايا" من فنانين وفنيين بدعوة سيادتكم لمشاركتهم تقديم أول إنتاجهم إلى الجمهور العربي الكريم في حفلات العرض الأول للفيلم بدار سينما ديانا بالقاهرة.
ورقة آخرى عبارة عن إذن صرف من عبد الحليم حافظ إلى نفسه بصفته شريك في الشركة إلى عبد الحليم حافظ بصفته فنانا "بدل مطرب". وإذن الصرف تاريخه 1 يونيو في سنة 1966.
وتكشف الورقة عن الدقة التي كان يتعامل بها كل من عبد الوهاب وعبد الحليم مع الشركة، ومدى الدقة التي التزما بها خاصة في الجانب المالي.
وفي واحدة من الأوراق المثيرة تلك المتعلقة بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الذي يعد واحدا من أشهر الموسيقيين المصريين والعرب، وهي عبارة عن إنذار بالفصل من جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين، والسبب هو تأخره في سداد الاشتراكات.
جاء هذا الإنذار بتريخ 6 مايو من سنة 1967 ، ومتوب عليه مسجل بعلم الوصول وفيه:
السيد الزميل المحترم/ محمد عبد الوهاب تحية طيبة وبعد
برجاء سداد الاشتراكات المتأخرة عليكم في خلال أسبوعين من تاريخه وإلا سنضطر آسفين لتطبيق القنون في شأن عضويتكم بالجمعية من سنة 1965- إلى سنة 1967.
وتفضلوا بقبول احتراماتي
أمين الصندوق.. دكتور يوسف شوقي
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة