تواصلت الفوضى فى مصر طوال السنوات الأربع التى تلت خروج الاحتلال الفرنسى عام 1801، وكان خلع حكامها بالقتل أو بالفرار أبرز مظاهر هذه الفوضى، وكان خورشيد باشا هو الأخير فى هؤلاء ليصعد بعده محمد على باشا.
بدأ شهر مايو 1805 حاملا معه نذير النهايات لفترة «خورشيد» التى بدأت بولايته على مصر منذ 13 مارس 1804، وبوصف الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى فى كتابه «الأزهر جامعا وجامعة»: «كان ظلوما جهولا، أسرف إسرافا بعيدا فى ظلم الشعب»، ويضيف، أنه كان يحتمى بجنود يطلق عليهم «الدلاة»، واستقدمهم من الأكراد لتدعيم مركزه، وفى أول مايو 1805 بلغت جرائمهم ضد الشعب ذروتها باعتدائهم على أهالى مصر القديمة.
يذكر الشناوى: «رابط فى حى مصر القديمة الجنود الدلاة الذين استقدمهم، وانقلبوا وحوشا كاسرة بعد أن تأخرت مرتباتهم ثلاثة أشهر، وأخذوا يهاجمون الشعب، وبدأوا اعتداءاتهم بالأسلوب التقليدى وهو خطف العمائم من رءوس المارة، ثم انقلبوا مجرمين عتاة ينهبون ويقتلون ويقتحمون البيوت، ويرتكبون جرائم خلقية، وما إن علم علماء الأزهر بهذه الجرائم حتى عملوا على تعبئة الرأى العام ضد هؤلاء الدلاة، وأمروا طلبة الأزهر بالمرور فى الطرقات الرئيسية وإذاعة أنباء هذه المآسى، ولم تمر ساعة واحدة حتى أغلقت الحوانيت والوكالات وأقفرت الأسواق من روادها، وتدفقت الجماهير على حى الأزهر تطلب من المشايخ بصوت جهير الإذن لها فى الزحف على مصر القديمة والانقضاض على الدلاة».
يذكر «الشناوى»، أن خورشيد علم بهذه الحركة وخشى أن يتفاقم الموقف، فأرسل وكيله ومعه قائد فرقة المستحفظان فى حراسة قوة من الجند إلى الجامع الأزهر للتفاهم مع العلماء على تهدئة الجماهير، ولكن انهال عليهم الطوب من أسطح المنازل وتعذر الوصول إلى الجامع، فعادوا من حيث أتوا، وصعد العلماء إلى القلعة وخاطبوا خورشيد فى هذا الإجرام الذى يمارسه جنود الدلاة، فأصدر أمرا لهم بعدم التعرض للناس فلم يمتثلوا.
يضيف الشناوى، أن العلماء خاطبوا خورشيد مرة ثانية، فأجاب بأن الجنود مسافرون بعد ثلاثة أيام، فزاد ضجيج الشعب، واجتمع المشايخ فى الجامع الأزهر صباح الخميس 2 مايو 1805، وأمروا بوقف الدراسة فيه، وخرج طلبة الأزهر إلى الأسواق يصرخون ويأمرون التجار بغلق الحوانيت، فأرسل خورشيد وكيله إلى الجامع الأزهر يعرض على العلماء هدنة مدتها ثمانية يبذل المشايخ خلالها جهودهم لتهدئة الأهالى وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعى.
لم يجد وكيل خورشيد أحدا فى الجامع، فتوجه إلى دار شيخه عبدالله الشرقاوى، وعقد اجتماعا شهده علماء الأزهر وعمر مكرم نقيب الأشراف، وعرض عليهم ما لديه، فاشترطوا تطهير المدينة وضواحيها من جنود الدلاة فى خلال ثلاثة أيام، ولما انصرف الوكيل بعد انتهاء الاجتماع فوجئ بالجماهير تقذفه بالطوب وتوسعه سبا وشتما، وعلى الرغم من عقد الهدنة ظلت الدراسة معطلة فى الجامع الأزهر، وبقيت معظم الحوانيت معطلة.
كانت هذه التطورات تؤدى إلى اقتراب ولاية مصر من محمد على الذى كان يراقب الموقف، بينما يبذل «خورشيد» جهوده لإبعاده عن مصر، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر»، مضيفا: «نجح خورشيد فى مسعاه، إذا ورد فرمان سلطانى بتقليد محمد على ولاية جدة، فابتهج، وأرسل إلى محمد على يستدعيه ليسلمه الفرمان ويخلع عليه خلعة الولاية الجديدة، لكن محمد على خشى الغدر به إذا هو صعد إلى القلعة تلبية لدعوة الوالى، فأرسل ينبئه بأنه مستعد لتلقى أمر التعيين فى أى منزل يختاره الوالى، فغضب خورشيد من هذا الجواب، وكاد الأمر يستفحل لولا تدخل الشيوخ، فاتفقوا على أن يكون الاجتماع فى منزل سعيد أغا وكيل دار السعادة وصديق محمد على، فرضى خورشيد باشا بهذا الحل مرغما، وذهب فى الميعاد يوم 3 مايو 1805، وبحضور العلماء والكبراء أمر بتلاوة الفرمان بتولية محمد على ولاية جدة.
يذكر «الرافعى» أن محمد على خرج من الاجتماع إلى داره مبتهجا وفرحا، وعاد خورشيد إلى القلعة بعد أن كاد الجنود المطالبون برواتبهم المتأخرة يفتكون به، كما أنه لم ينل من وراء هذه الدسيسة سوى الخيبة والفشل، وزادت مرتبة محمد على بتقلده الولاية دون أن يبتعد عن الميدان أو يذهب إلى جدة.
يؤكد الرافعى أن العلماء حددوا مهلة لجلاء جنود «خورشيد» تنتهى فى 11 مايو، مثل هذا اليوم، 1805، وتحت هذا الضغط الشعبى اضطر لإبعاد جزء لكن بقى منهم بالقاهرة نحو ألف وخمسمائة، وعلم زعماء الشعب أنهم ممتنعون عن الجلاء حتى تدفع رواتبهم، ولم يكن الوالى يستطيع دفعها لأن خزينة الحكومة خالية، وأحدثت هذه الأنباء هياجا عظيما فى الخواطر، وبات الناس ليلة الأحد فى هرج ومرج، والزعماء يتشاورون فيما يعدونه فى الغد (12 مايو 1805).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة