من يعرف السودان، يدرك جيداً أن ما يشهده اليوم من صدام عسكرى، بين الجيش السودانى، وقوات الدعم السريع التي تمردت على الجيش الوطنى، زاد من تعقيدات المشهد الداخلى، فالدولة الشقيقة لنا، تعانى منذ فترة أزمات سياسية كان لها تبعات اقتصادية شديدة الوطأة، أثرت بشكل مباشر على البنية التحتية، وعلى حياة السودانيين بشكل عام، وهو وضع شديد التأثير والتعقيد أيضاً، خاصة على الجاليات المتواجدة بالسودان لأسباب متعددة.
وسط كل هذه التعقيدات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وغلق لمدن وتحويلها إلى مسرح لمواجهات عسكرية، وتعليق للطيران وإقفال للحدود، وغيرها من التداعيات الكثيرة التى تفرضها أى مواجهة عسكرية على الأرض، وسط كل هذا كان السؤال الذى يتردد بالقاهرة، ما مصير المصريين المتواجدين في السودان؟.. والسودان هنا المقصود بها كل الدولة السودانية، وليس العاصمة الخرطوم فقط، فالمدن السودانية مترامية الأطراف، ويفصل بينها مئات الكيلو مترات، وفى كل مدينة مئات المصريين المتواجدين لأغراض تعليمية أو تجارية. فما مصير كل هؤلاء؟.
بدأ هذا السؤال يتردد في الأوساط الشعبية والإعلامية أيضاً بعد أيام من اندلاع المواجهة العسكرية في السودان، وغاب عن الجميع حقيقة واحدة، أن هذا السؤال كان أول ما طرأ على ذهن القيادة السياسية المصرية، التي وقفت لترصد ما يحدث في السودان، واضعة أمامها كل السيناريوهات وخطط التحرك التي تستهدف في المرتبة الأولى العمل بكل ما أوتيت الدولة المصرية من قوة لحقن دماء الأشقاء السودانيين، من خلال حشد كل الجهود لحث الأشقاء على وقف إطلاق النار بأقصى سرعة والعودة إلى طاولة المفاوضات لأنها الحل الوحيد.
ومع كل التحركات المصرية كان القرار من القيادة السياسية، هو تأمين المصريين، كل المصريين على الأراضى السودانية، ووضع الخطط اللازمة لإجلائهم إذا لزم الأمر.
القرار اتخذ منذ اللحظة الأولى، والتوجيه الذى أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسى، لأجهزة ومؤسسات الدولة المصرية وتحديداً "القوات المسلحة والمخابرات العامة والخارجية"، هو العمل على مدار اللحظة وتوفير كل الإمكانيات في الوقت المناسب لإجلاء المصريين من السودان إذا ساءت الأمور على الأرض.
كان واضحاً منذ البداية أمام أجهزة الدولة المصرية، أنها تتعامل مع وضع بالغ التعقيد، وهو أمر يحتاج إلى العمل بمنتهى الحكمة وصولاً إلى تحقيق الهدف، وهو إعادة نحو 10 آلاف مصري من الأراضى السودانية إذا تطلب الأمر ذلك.
في هذه الأوقات كانت هناك دعوات دولية ووساطات انتهت إلى الاتفاق على هدن إنسانية، لكن على الأرض تم خرقها أكثر من مرة، ويوم تلو الآخر ازداد الوضع على الأرض سوءاً، فكان القرار تنفيذ خطة الإجلاء للمصريين، التي تتضمن توفير ممرات آمنة حتى وصولهم إلى أرض الوطن سالمين.
وبالفعل بداية من الأحد الماضى، تم تنفيذ الخطة بحكمة شديدة، وتناغم واضح وتنسيق بين أجهزة الدولة المصرية "القوات المسلحة وجهاز المخابرات العامة ووزارة الخارجية" بالتعاون مع السلطات السودانية، وكانت البداية بإجلاء 436 مواطناً من السودان عبر الإجلاء البري، لتكون هذه العملية هي نقطة الإعلان عن ساعة الصفر لبدء عملية الإجلاء، التى تم وضعها منذ اللحظة الأولى لبداية الأزمة في السودان وتحسباً لأى طارئ قد يحدث، وتضمنت الخطة أن تتولى السفارة المصرية فى الخرطوم والقنصليات في الخرطوم وبورسودان والمكتب القنصلي في وادي حلفا التنسيق مع المواطنين المصريين فى السودان لتأمين عملية إجلائهم تباعاً، ثم توفير مناطق آمنة لهم داخل الأراضى السودانية تمهيداً لبدء عملية الإجلاء البرى.
ومن يتابع عملية الإجلاء سيجد نفسه أمام حقيقة واحدة، أن ما حدث ويحدث على الأرض في السودان من جانب أجهزة الدولة المصرية لتأمين إجلاء الجالية المصرية هناك، هو عمل احترافى بل شديد الاحترافية، من دولة تضع مواطنيها أولوية.
نعم عمل احترافى، خاصة إذا علمنا أن أعداد المصريين في السودان تتجاوز العشرة آلاف مصري، موزعين في مدن مختلفة، وهو أمر يحتاج إلى عملية تخطيط محكمة وآمنة ومنظمة لضمان سلامة ودقة عملية الإجلاء، خاصة في ظل التصاعد الخطير في حجم المخاطر، التي وصل مداها إلى أن أحد أفراد السفارة المصرية بالخرطوم أصيب بطلق ناري بالفعل، في إشارة واضحة إلى خطورة الوضع الميدانى، بما يؤكد أن الاحترافية في التعامل مطلوبة، لأن الوضع حرج ودقيق ويتطلب ضرورة توخي أقصى درجات الحذر حفاظا على سلامة مواطنينا وأعضاء بعثاتنا في السودان.
بالتأكيد فإن ما نراه يحدث اليوم هو تأكيد على أن الدولة المصرية خلف أبنائها أينما تواجدوا وأيا كانت الطروف المحيطة بهم، بما يؤكد قوة الدولة وقدرتها على حماية أبنائها في الداخل والخارج، وهو أمر اعتدنا عليه منذ 2014 وحتى اليوم، فكلما وجد المصريون في الخارج أنفسهم وسط أزمات سياسية أو اقتصادية أو حتى صحية في البلدان المقيمين بها، وجدوا الدولة المصرية خلفهم مباشرة، توفر لهم الخروج الآمن، وهو ما حدث مؤخرا في دول مثل ليبيا وأفغانستان وأوكرانيا واليمن والصين، فكلها دول شهدت أزمات متعددة، ووجد المصريون في هذه الدول، الدولة المصرية خلفهم، وتمت عمليات الإجلاء الآمن في وقت قياسى، بل إن المصريين في هذه البلدان كانوا أوائل الجنسيات مغادرة.
كل هذه السوابق، ويضاف إليها ما يحدث في السودان اليوم، هو رسالة للجميع بأن المصرى خلفه دوماً دولة تحميه وتحفظ حقوقه أينما كان. دولة أقسم رئيسها على ضمان سلامة وأمن أبناء الوطن في الداخل والخارج، وها هو يبر بقسمه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة